تساؤلاتٌ عن حاجاتها المعنويَّة وبناها التحتيَّة

ثقافة 2023/07/24
...

  استطلاع: صلاح حسن السيلاوي
كيف نرى، وبمَ نقيّمُ المشهد الثقافي في جنوب العراق؟، ذلك المشهد الذي يمد جذوره في تربة خصبة من الأزمان المتراكمة، تتعالى أغصانه في سماء فضاء إبداعي متنوع، ترفده الحضارات بفنونها وآدابها وأديانها وطوائفها وتعدد قومياتها وعروقها ولغاتها.
الجنوب بكل ما يملك من عمق معرفي، وكل ما أَنجز من تاريخ مزدحم بالضوء، يقف على شرفات الأسئلة، أسئلة وجوده المعاصر، كيف يحيا صناعه؟، أين يذهب بما ينجزونه؟، ماذا عن أسواق الإبداع وطلابه؟، هل تتمكن المؤسسات الثقافية من ترك أثر في الواقع؟، ما الذي قدمته الحكومات المحليَّة والمركزيَّة لثقافته؟.
تساؤلاتٌ أخرى عن فاعليّة المشهد الثقافي، عن خصائصه ومميزاته عن غيره، عن حاجته لمشاريع على مستوى النوع والكم، عن البنى التحتيّة التي تليق بمستواه التاريخي والمعاصر، عن أهمية الدعم المادي والمعنوي المقدم له من الدولة ومؤسساتها المتنوعة، عمّا يقترحه لنفسه في سبيل تطوره؟.
عن هذا وغيره، بحثت عن أجوبة في حضرة نخبة من شعراء البصرة وذي قار وميسان عبر هذا الاستطلاع.

تفاؤلٌ وأحلام
الشاعر كريم جخيور، أجاب عن تساؤلاتي التي وجهتها له عن البصرة ومشهدها، بالحديث عن ثقافة العراق بشكل عام، فكأنّه بإجابته هذه كان يريد القول بتشابه الخاص والعام في بلادنا أو أنه لم يرد التطرّق لمشكلات الحياة الثقافية في البصرة.
فها هو يقول: إذا عرفنا بعد 1500 عام، بأن الشعراء العرب، ولا أقول في العراق فقط، كانوا يجتمعون في كل عام أو عامين ويتبارون في ما بينهم، ثم يعلن الحكم من هو الفائز، دونما حرب ولا نسمع صوتا للسيوف، هذا دليل على أنهم كانوا وما زالوا أهل شعر وسلام.
الحياة كبرت.. وتطورت وصار العراقيون في كل مدينة وربما قرية يعقدون مهرجانا للشعر، وآخر للقصة وآخر للرقص والغناء.
وهذا ليس بجديد على العراق، فهو يمثل القامة الأعلى عربياً، الجواهري.. السياب.. نازك الملائكة، محمد خضير... البريكان.. كاظم الحجاج.. طالب عبد العزيز...
هذا على مستوى الإبداع، أما على مستوى الدعم الحكومي، فهو ليس بثابت ونتمنى أن يكون ثابتاً وكبيراً وطموحاً وعلى المستويات كافة.
فليس من العقل أو المنطق أن تقيم الدولة ملاعب بالمليارات من الدولارات ولا تطبع كتابا أو تعقد مهرجانا للشعر والقصة.
مع هذا فإنّ اتحاد الأدباء والكتاب في العراق ووزارة الثقافة.. ودار الشؤون الثقافية، دائمو العمل على رفد الثقافة والفنون...

تعدد النوافذ الثقافيَّة في المدينة
الشاعر حبيب السامر، أشار بإجابته إلى تنوع نشاطات وفعاليات المشهد الثقافي في البصرة، وفقا لحجم وسعة المنافذ الإبداعية والتجمعات الثقافية والملتقيات المتعددة، فضلا عن وجود مثابات مهمة ترفد الثقافة البصرية والعراقية بهذا الينبوع الثر، على حد وصفه.
وأضاف السامر موضحا: لو استعرضنا عدد المنتديات والملتقيات والمراكز الأدبية والتجمعات في محافظة البصرة، وحاولنا أن نوزعها بين عدد أيّام الأسبوع، لا تكفي لاستيعاب لهذه الجلسات لذلك تجد بعض الأنشطة تتداخل في زمن انعقادها، وهذا يسبب إرباكا غير مقصود في عدد الحضور والتواجد في قاعات الجلسات، من هنا يتضح بشكل كبير حجم الأنشطة المتوزعة بين نوافذ إبداعية متعددة، ربما هذه خصوصية واضحة لمدينة مثل البصرة تعج بالأسماء المبدعة والراسخة، فضلا عن كونها تمتاز بموقع جغرافي يتحتم على المعنيين بتنفيذ البرامج الثقافية ضرورة أن تتعدد النوافذ الثقافية، خذ مثلا لدينا منتديات ثقافية في بعض أقضية المحافظة مثل (أبو الخصيب، القرنة، الزبير، المدينة) وهناك أفكار كثيرة لزيادة عددها لتشمل كل أقضية المحافظة، كما هناك ملتقيات أخرى أخذت مساحتها في استقطاب الجمهور البصري.
يقف اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة على رأس الهرم الثقافي في المدينة لما يمتلك من صفة معنوية مؤثرة في المدينة، فضلا عن البيت الثقافي التابع لوزارة الثقافة والسياحة والآثار كونهما يرتطبان بجهات داعمة ومنسقة وجهد ثقافي فاعل، وتنبثق في المدينة ملتقيات وتجمعات ومنتديات تسعى إلى تنفيذ برنامجها الثقافي المنوّع من دون مظلة دعم حكومية، وهذا يعتمد على الجهود الشخصية لبعض أعضائها في تنفيذ فعالياتها.
وقال السامر ايضا: تقف في مقدمة المقترحات التي من شأنها تنشيط الواقع الثقافي في البصرة أو في محافظات الوطن هو تهيئة البنى التحتية وتوفير مكان مناسب يحتوي على وسائل الراحة والمتابعة، فضلا عن تخصيص حكومي سنوي لكل هذه النوافذ الثقافية وتحرص على متابعة انشطتها وفعاليتها وتخضع للتقييم في نهاية السنة كي تستمر الأنشطة الفاعلة في المدينة، هذان السببان هما حجر العمل الحقيقي لو فكرنا بنهضة ثقافية واسعة تستقطب الكتّاب والأدباء والجمهور المتابع لهذه الأنشطة.
من هنا تظهر الصورة واضحة في عيون المثقفين من خلال دعمهم لتنشيط واقعهم الثقافي، ليكون محطة مهمة تفتخر بها الأجيال.

شبه ركود
عن ذي قار وثقافتها ومشهدها الإبداعي، حدثنا الشاعر عباس ريسان، مشيرا إلى وجود ما أسماه بشبه ركود وبطء شديد في خطوات المشهد الثقافي في ذي قار عموماً، على الرغم من وجود أمسية ثقافية هنا، وعرض مسرحي هناك ــ منذ انطلاق ثورة تشرين وما رافقها من ظروف كورونا ــ ولفت إلى أن سبب ذلك يرجع الى حالة عدم الاستقرار الذي تمر بها الناصرية باعتبارها مركزاً لما يحيطها من أقضية ونواح.
وأضاف مبيناً: الجميع يعلم أن انتعاش الأدب والثقافة عموماً لا يأتي ولا يتحقق إلّا بوجود الاستقرار السياسي، فضلاً عن ذلك، كل الحكومات التي تعاقبت على ذي قار لم تولِ اهتماماً للجانب الثقافي، وكأنّ تلك الحكومات كانت تتقصد عزل الثقافة وتهميشها، لا أريد أن أكون سوداويا في رأيي ونظرتي الى الثقافة، ولكنها اذا ما قارناها مع ما مضى، سنرى اختلافاً كبيراً مع الحاضر. نعم هناك اصدارات كثيرة تخص الرواية والشعر والقصة والترجمة... الخ، ولكن من يقرأ، وما مدى تأثير تلك النتاجات على الواقع؟، اعتقد أنه لا أحد سيصدق أن مدينة بحجم الناصرية وثقلها الثقافي لا توجد فيها مجلة تهتم بالجانب الثقافي، هذه المدينة التي كانت تصدر كل جديد ويهابها الجميع، لأنّها المنفردة بأفكارها، الصانعة قراراتها بنفسها من دون تدخل الآخر.
وقال ريسان أيضا: في الآونة الأخيرة بدأت ملامح الاهتمام من قبل الحكومة المحلية والامانة العامة لمجلس الوزراء تهتم بشكل ملحوظ بهذا الجانب، فقد بدأ الشروع بتنفيذ مشروع مدينة اور السياحيّة الجديدة، وهو مشروع مهم ويعتبر الأول من نوعه، ذات ملامح سومرية، ويعتبر نقلة نوعية من الناحية الجمالية، واهم ما فيه هو المسرح السومري، فضلاً عن ذلك هو افتتاح القصر الثقافي في وسط الناصرية منذ مدة ليست ببعيدة.
وجود المستشار الثقافي ضرورة ملحة في الحكومات المحلية، باعتباره بوصلة تشير الى مكامن الجمال، وهذا ما تفتقر له ذي قار، فإثارة الأسئلة والسعي الجاد بإيجاد مقترحات تجعل المسؤول يلتفت الى هذا الجانب ويتفاعل معه ومن ثم تحقيقه على أرض الواقع، ويقيناً بلا دعم مادي لن تتحرك عجلة الثقافة خطوة واحدة، ناهيك عن دور اتحاد الادباء والمؤسسات الثقافية ومدى تكاتفها من أجل هدف واحد؛ هو تحقيق وايجاد بيئة حاضنة للثقافة.

غياب الستراتيجيات الثقافيَّة
وللاطلاع على واقع المشهد الثقافي في محافظة ميسان، تحدث لنا الشاعر والناقد نصير الشيخ عن ذلك مشيراً إلى اشتراك المحافظات العراقية، في نقاط عديدة، تخص التهميش الذي طال ويطال البنى التحتية للثقافة والتي من شأنها ان تكون السقف الذي يتم تحته انجاز الفعل الادبي او الفني او الموسيقي او المسرحي.
مؤكداً أنّ ميسان ليست طرفاً قصيّاً من هذه الجغرافيا المترامية «الأحزان» المحافظات، الذي يشير الى وجود العشرات من الموهوبين والمبدعين على حد سواء في قدرتهم على انتاج خطابات فاعلة في المشهد كل في تخصصه، وللأدب بالطبع القدح المعلى في هذه المساحة.
وأضاف الشيخ مبيّناً: منذ انبثاق اتحاد أدباء وكتاب ميسان منتصف تسعينات القرن العشرين الماضي، وحتى الان لم يمتلك بناية خاصة به، وبقيّ أسير التنقل والترحال وضيفاً ثقيلا على القاعات والمنتديات التي تملكها جهات أخرى. استشهد باتحاد أدباء ميسان لأنه الجهة الفاعلة الأكثر استمرار في تقديم الأنشطة الثقافية والأدبية والمؤتمرات والمهرجانات. تتبعه النقابات في قاسم مشترك معه وبالمعاناة نفسها.
خذ مثلاً، لا مسرحَ يليق كمبنى بتاريخ الحركة المسرحية في ميسان، والتي واكبناها ونحن طلبة في المتوسطة، مبنى ربما يتيح حضور الأسرة الميسانيَّة لمشاهدة عرض مسرحي شعبي ترفهُ فيه عن نفسها وتزيدها ذائقة وترحاباً للفن. فضلا عن عدم وجود قاعة متخصصة «صالة عرض» بالفن التشكيلي تصبح «كاليري» دائما  لعرض اللوحات الفنية والمنحوتات وبما يسمح الارتقاء بالذائقة الجمالية لقطاعات واسعة من الجمهورالميساني. وما تقوم به جمعية التشكيليين العراقيين فرع ميسان خلال عام واحد او أكثر بقليل، يعد إنجازاً متفرداً، حيث استطاع أعضاؤها من تحويل «بيت مستأجر» الى عالم لوني حيّ يضج بالألوان ورائحة الزيت وقبلة لضيوف المدينة.
أما ما يخص اهتمام الحكومات المحلية بالحركة الثقافية في المحافظة والنهوض بها عن طريق الاهتمام بالبنى التحتية لهذه الاتحادات والنقابات فهو خاضع وسيبقى!!، لذائقة بعض المسؤولين المغمسة بـ «الجهل» والجهات التنفيذية العاملة تحت أمرتهِم، من دون استشارة أو رأي لمبدع او فنان بدءاً من وضع تمثال او تشييد نصب وصولاً لبناء مسرح عصري متقدم مثلا.. وهنا استشهد بجملة من قصائد محمود درويش في قوله (أنا من رأي تأريخ هجرات الشعوب من الكهوف الى المسارح) !! ...
كل الذي قلناه الآن، يؤكد ضرورة المكان كحيز للمنتجين والعاملين فيه من الأدباء والفنانين في تقديم فعالياتهم وندواتهم واجتماعاتهم وبما يترك أثراً في الزمن الحاضر وذاكرة المكان وما سيكتبه التاريخ عن هذه المرحلة. كل هذا ياصديقي بسبب غياب الستراتيجيات الثقافيّة وآليّات صناعتها على مدى سنوات لدى الحكومات المتعاقبة وحتى قبل التغيير عام 2003، وانطفاء جذوة الشعور بأهمية الثقافة ومبدعيها وبناها ومراكزها وبما يمد جسور التواصل مع الأجيال اللاحقة.

موسومة بماء الذهب
الشاعر عصام كاظم جري تحدث عن الثقافة في محافظة ميسان فقال: لا يخفى على أحد بأن الثقافة في مدينة «ميسان» موسومة بماء الذهب ومخطوطة على جدران الدّروب والأزقة والمقاهي القديمة، الثقافة هنا وسيلة تفاهم وتبادل وعي ومعرفة وفكر وكتب، وقد ولَدتْ هذه المدينة رموزا في الأدب والثقافة والفنون، لا مجال لذكر الأسماء فالقائمة طويلة، وما زالتْ ولّادة لإنتاج الجمال والألق. وطوال الزمن الذي مضى لم يكن هناك من حاجز بين المثقف وإنتاج الوعي المعرفيّ والجماليّ. أدباء ميسان حاضنة ثقة، لا تُضاهى بالإبداع والموقف، وبقدر ما يكون المرء مثقفا تكون مكانته بين الناس، وعن فاعليّة المشهد - الآن- للأسف الشديد قد تغيّرت بعض المفاهيم والسلوكيات، ففي الآونة الأخيرة طرأ على المشهد الأدبي تحديداً جملة من الملابسات الغامضة منها: أنشطة أدبيّة حادة البرودة وشبه خالية من المحتوى، وخائبة الرجاء، واستقالات جماعيّة لأكثر من تسعة أسماء أدبيّة مهمة فازت للعمل بالهيأة الإداريّة وانسحبت خلال دورتين متتاليتين، هذا يحدث لأوّل مرة في ميسان وربما تعدّ هذه الاستقالات ميزة وخصيصة انفردت بها ثقافة ميسان!! ومنها أيضا عزلة الأدباء الفاعلين عن التواصل مع أنشطة اتحادهم، بالوقت الذي أرى فيه «الدعم المالي» من المركز العام لاتحاد ميسان في أعلى معدلاته الماليّة. الثقافة بالمجمل بحاجة إلى الترفّع والسّمو عن فعل الإبعاد القسري الممنهج لبعض الأدباء والمثقفين، هذا الفعل سيفتح لهم أفقا أوسع ونوافذ بديلة، يمارسون أنشطتهم الأدبيّة بإيمان مطلق، ووعي تام، وثقافة لها مساس مباشر بحياة الناس.
وأضاف جرّي أيضا: أما عن البنية التحتية والجمهور ومستويات التفاعل مع الثقافة والأدب والفنون بالحقيقة بعد تأسيس «مُلتقى ميسان الثقافيّ» في ربيع/ 2023، أصبح نافذة أدبيّة إبداعيّة تنويريّة، استطاع أن يؤسس لنفسه ثقافةً وطنية شاملة وحصيفة، من خلال أمسياته الأدبيّة والثقافيّة (شعر، سرد، تاريخ، خطابة، آثار وتراث، دراسات ثقافيّة وأدبيّة، توقيع كتب..)، وبدعم ماليّ من مؤسسيه فقط.
حقق الملتقى مساحاتٍ واسعة من التفاعل والتّقارب والتّواصل مع الحضور النوعيّ لجلساته في أجواء أدبيّة وثقافيّة دافئة، وحقق أمسياتٍ شهدت حضوراً لشخصيات ثقافيّة وأكاديميّة مُتنورة من داخل الوسط الأدبيّ ومن خارجه، ولا ننكرُ أنّ غاية الملتقى إعادةُ الاعتبار للثقافة الميسانيّة، وكشف مضامين الجمال والإبداع من جديد.  اقترحُ وأدعو بشدة إلى فتح نوافذ أدبيّة ومساحات ثقافيّة وفنيّة عديدة، مثلا ملتقيات/ منتديات/ ورش/ نوادِ ...الخ، ودعمها مادياً ومعنوياً.