تطويق البحر الأسود

آراء 2023/07/25
...








 سناء الوادي 


تتصاعد الأحداث عمّا كانت عليه في غرب روسيا وشمال تركيا بشكل لافت، مشيرةً إلى قرب اندلاع حرب عالمية ثالثة في تطور خطير قامت بها موسكو بالتملّص من التزامها باتفاقية تسمح بتصدير الحبوب الأوكرانية من ميناء أوديسا في الجنوب والمطلّ على البحر الأسود، تاركة الأمن الغذائي العالمي في مهب الريح، فتتصدر المشهد عملية خلط الأوراق السياسية، واللعب بمستقبل العالم كلٌّ حسب مصالحه وغاياته، بدءاً من بلاد العم سام المارقة، مروراً بالدمية الأوكرانية وتركيا متقلبة الأهواء والميول، وصولاً للدب الشرس الذي يواجه المدّ المتواصل للناتو على حدوده. 

وفي هذا الإطار فإنَّ كلَّ الممسكين بزمام القرار في تلك الدول، يضربون بعرض الحائط ما قد تؤول إليه مصائر الشعوب في ظل رفع درجة التوتر، والتي قد تُفضي لحرب مدمرة تهلك البشر والحجر خاصةً عند ناميات الدول. 

من المؤكد أن لفشل الهجوم المضاد الأوكراني، الذي ضجت به أسماعنا منذ عدة أشهر وما حشد له الغرب من بروباغندا ضخمة لإرهاب الجانب الروسي، سرعان ما ارتطم بالتململ الغربي من استمرار التمويل لهجوم بطيء لم يحقق أي تقدّم يذكر من جهة، ناهيك عن أنها تجثم تحت وطأة الضغط الشعبي الممارس عليهم، نتيجة لنقص الطاقة بفعل عقوباتهم المفروضة على موسكو، ناهيك عن ارتفاع نسبة التضخم وما رافق ذلك من إفلاس بنوكٍ كبيرةٍ.

لا شك أن هذا التصعيد الروسي جاء على خلفية اجتماع قادة الناتو الأخير في ليتوانيا “إحدى دول البلطيق”، والذي أظهر للعيان رفض أوروبا لانضمام أوكرانيا للحلف أو حتى على الأقل وضع أجندة زمنية لذلك، فضلاً عن استدارة أنقرة ظهرها للدب وقبولها انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي وهو بالتأكيد ما لم تتوقعه موسكو، فما كان من الرئيس بوتين إلا استغلال الهجمات التي قامت بها المخابرات الأوكرانية بمسيرات انتحارية بحرية على جسر كيرتش “جسر القرم”، للمرة الثانية بهدف قطع الإمداد عن الجيش الروسي المتواجد في القرم، إضافةً لضرب قاعدة عسكرية هي الأضخم ضمن الجزيرة، هذا السيناريو الذي قد أشار إليه سابقاً رئيس هيئة الأركان الأمريكي مارك ميلي من تحول قادم في مسار الهجوم المضاد، وهو ما قد يقلق بوتين فعلاً، خاصةً بعد الموافقة الأمريكية بتزويد كييف بطائرات اف 16 المقاتلة وإرسال القنابل العنقودية المحرّمة دولياً، وفقاً لاتفاقية منع استخدام هذه الأسلحة في العام 2008م.

وفي الوقت الذي تنتهي فيه مدة اتفاقية الحبوب الموقعة بين الجانبين المتنازعين برعاية تركية أممية، قام بوتين بإلقاء صفعة على وجه أوكرانيا بعدم التجديد لهذه الاتفاقية، وليبقى القمح والحبوب الأوكرانيين في المخازن مع مصيرٍ مجهول، ويُتبِع ذلك بهجمات عنيفة على ميناء أوديسا المتنفس الأكبر لكييف على البحر الأسود، ردّاً على تصريحات الرئيس الأوكراني زيلينسكي بمواصلة تصدير الحبوب رغماً عن روسيا، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل أعلن عن تطويق روسيا للبحر الأسود واعتبار أي سفينة تعبر البحر هي سفينة إمداد عسكري ومباحٌ له تدميرها ووضع الدولة التي ترفع تلك السفينة علمها كدولة متورطة في الصراع إلى جانب الأوكرانيين. 

وفي هذا السياق فالورقة التي يراهن عليها بوتين هي الضغط على دول الغرب بقيادة أميركا لرفع العقوبات عن روسيا وتنفيذ بنود الاتفاقية كاملة كالسماح بتصدير روسيا لكل ما ترغب من منتجاتها وعودة البنوك الروسية لنظام سويفت المالي وغيرها، أمّا على الوجه الآخر فهي عضٌّ على الأصابع التركية التي استفادت من رعايتها لتنفيذ الاتفاقية بتخزين ما يقارب من عشرة ملايين طن من القمح في مخازنها، هذا غير تأمين جزيرة القرم وحمايتها من أن تصبح مرمى للصواريخ 

الأوروبية. 

هل سينجح بوتين في مساعيه، وهل سيستجيب الناتو للضغوط الروسية، أم سيجد حلولاً بديلة وناجعة لتصدير الحبوب برّا عبر رومانيا وبولندا، ويبعد الشعوب عن نقص محتمل من القمح، وما سيتبع ذلك من ارتفاع أسعاره عالمياً وهذا ما يزيد من وطأة الشعوب ومعاناتهم.