النسقيّة الثقافيَّة والنسقيّة الأيديولوجيَّة

آراء 2023/07/25
...

 ثامر عباس 


ليس من الغريب القول إنه في المجتمعات المتصدعة البنى والمتشظية الأنساق والمتذررة الجماعات – كما هو حال المجتمع العراقي – غالبا"ما يعاني الوعي الاجتماعي من ظاهرة (الانكفاء) في الوظيفة النقدية و(التراجع) في الأنشطة التنويرية، الأمر الذي يفسر لنا سبب تعطل السيرورات الاجتماعية، وتخلخل الديناميات الحضارية على النحو الذي يفضي بالمجتمع المعني إلى الدخول في دوامات من التأزم السياسي، والتفاقم الاقتصادي، والتصادم الثقافي.

هذا دون أن يتمكن من الاهتداء إلى سبل الخلاص من هذه الخوانق التاريخية أو النجاة من تبعاتها المدمرة لكيانه والفانية لحضارته والمهددة لمصيره، طالما ظل حبيس تلك الخوانق (يجتر) أمجاده الزائلة و(يغتر) بمواريثه الآفلة. 

وإذا ما فتشنا عن الأسباب وتساءلنا عن الدوافع التي تسوق المجتمع قهريا صوب هذا الاتجاه (العدمي) والنزوع (التدميري)، سنلاحظ أن هذا الأمر ما هو إلاّ حصيلة تضافر إشكاليتين متعاقبتين ومتزامنتين في نفس الآن، لم يتسنَ للمجتمع المقصود ليس فقط الظفر بإمكانية (المعرفة) بوجودهما فاعلين في بنيته التحتية والفوقية على حدّ سواء فحسب، وإنما انعدام قدرته على فضّ التشابك البنيوي والترابط الوظيفي بينهما لجهة التأطير الذهني والتأثير النفسي، فضلا عن غياب الوسائل والأساليب التي من شأنها منحه ما يحتاجه لـ(تفكيك) الأساسات، التي بنيت عليهما تلك الإشكاليتين بالصيغ السليمة والطرق الملائمة، التي من شأنها التمهيد للمعالجات والاستشراف للحلول، دونما خسائر كبيرة أو أضرار خطيرة، قد يتعرض لها الكيان الاجتماعي برمته جراء ذلك التفكيك البنيوي للأساسات والتحليل المنهجي للديناميات، ومن ثم إعادة البناء من جديد على أسس تاريخية مختلفة وسياقات حضارية مغايرة. 

ومن هذا المنطلق نجد في إطار الإشكالية الأولى المتمثلة (باحتباس) الوعي الاجتماعي داخل شباك (النسقيّة الثقافية) المتسمة بالطابع التقليدي المتقادم تاريخيا والمتوارث انثروبولوجيا، والتي رغم كونها تتقاطع مع أواليات التغيّر وديناميات التطور، التي شملت كل المجالات الاجتماعية والقطاعات الاقتصادية والمنظومات الرمزية، إلّا أنها ما زالت تحكم قبضتها القوية، وتفرض سطوتها الشاملة على مجمل المسارات الحضارية والتوجهات الثقافية والنشاطات الفكرية، التي تعد - في الوقت الحاضر - من أبرز المعطيات وأقوى المؤشرات التي تقيّم على أساسها مستويات تطور مجتمع ما في مضامير العلوم الاجتماعية والمعارف الإنسانية والانجازات الحضارية، ناهيك عن ميادين الصناعات الإنتاجية المتعددة والمبتكرات التكنولوجية المتنوعة.

هذا في حين نلمس على صعيد الإشكالية الثانية استمرار (تخبط) ذلك الوعي في أتون ظواهر (الأصنمة) للتصورات السياسية ذات التوجه الانفرادي، و(الأقنمة) للمعتقدات الدينية ذات المنزع التعصبي، عبر الانتماء للراديكاليات السياسية (اليمينية واليسارية)، والانخراط بالأصوليات الدينية (المذهبية والطائفية)، والارتباط بالتكوينات الانثروبولوجية (القبلية والعشائرية). 

وهكذا، فبالنسبة للإشكالية الأولى المتمثلة بخاصية (النسقيّة الثقافية) فإن وظيفتها على صعيد (الوعي) الاجتماعي، تتركز في شدّها المتواصل للفاعل الاجتماعي صوب سرديات (الماضي) والاستغراق بمواريثه التاريخية الملتبسة، وما قد يعنيه ذلك من تحيين مستمر لأرشيف (الذاكرة التاريخية) للجماعات السوسيولوجية والمكونات الانثروبولوجية من جهة، وتفعيل متواصل لمخزون (تمثلاتها) الأسطورية والرمزية والثقافية من جهة أخرى.

لا سيما أنها تعيش في مجتمعات أصبحت هي والأزمات البنيوية بمثابة توأم سيامي يتعذر فصل أحدهما عن الآخر، بحيث إن بنية (وعيها الجماعاتي) تبقى حصينة أمام التغييرات الداخلية الطارئة وعصية على الاختراقات الخارجية المفاجئة، التي من الممكن – في حال رجحان كفتها – إحداث انزياحات كبيرة في الأدوار وتبدلات واسعة في الوظائف. 

أما بالنسبة لخاصية الإشكالية الثانية المرتبطة بطبيعة (النسقيّة الإيديولوجية)، فان دورها لا يقتصر فقط على (اختزال) ثراء جدليات الواقع الاجتماعي الحافل بالخلافات والاختلافات، كما لا يقف عند حدود (تنميط) وعي الجماعات والمكونات بما ينسجم وطروحات المعتقد المؤسسي، الذي تبنى عليه الأفكار والتصورات والتمثلات فحسب، وإنما تسهم في (أمثلة) الخيارات والتطلعات وتفضي بها إلى الانغماس بالتأملات المخيالية واليوتوبية، بدلا من التماس النهج المفضي إلى المسارات الواقعية والاتجاهات العقلانية.

أي بمعنى أن إشكالية (النسقيّة الثقافية)، تقود إلى التمسك بمواريث (الماضي) والرهان على أرصدة قيمه وعاداته وتقاليده ورموزه، بصرف النظر عن مستوى قيمتها التربوية والأخلاقية والإنسانية. هذا في حين ترمي بنا إشكالية (النسقيّة الأيديولوجية) في أتون التمثلات المتنابذة والسرديات المتصارعة، على خلفية انخراط المتخاصمين والمتكارهين في مساعي الارتقاء بـ(النحن) إلى مصاف(القديسين) من جهة، والانكفاء ب(الهم) إلى حضيض (الشياطين) من جهة أخرى.