العمل الادبي ليس نتيجة صدفة القراءة . أي أنه ليس استجابة آنية لرأي أو تنظير. عموما هو نتاج تطور اجتماعي. وحين يكون التحول حقيقياً ومتجذراً يرسم تحولاً او تجديداً. فهو إذاً، أعني التجديد، نتاج نمو ثقافي وتطور رؤية. وضمن معنى “تطور ثقافي”، تطور ثقافة نقدية وتوسع أفق فكري.
لذا لا أرى التجديدات المتسارعة لها قدرة ثبات مثمر. تبقى استجابات لقراءات وتنوعها من ذلك التنوع. وغرابتها من غرابة تلك. وجِدتها من جدة تلك أيضاً. وهكذا محاكاة واستجابات لا تنتهي عند حد ولا عند انموذج. نبقى دائما معها أمام المتغير الذي يفتقد ويُفقدنا استمرارُه الرسوخ.
وهنا يصبح طبيعياً جداً لا تميز اسلوب ولا تميز موضوع. هي تحمل صفات قيلت أو أتت بها القراءة ولم تعد بعد تأسيساً خاصاً منتجاً.
ولذلك دائماً ما نكون بإزاء كتاب، شعراء، فنانين متميزين شخصيات وأساليب، يقابلهم أو يعايشهم أشبه ما يكونون بهواة تجديد محلياً وممارسي محاكاة مقارنة بمقروءات . تاريخ الادب لا يعتمد هذه هو يعتمد الراسخ وتعنيه في الراسخ الاضافة. تاريخ الادب تاريخ
اضافات .
نعود الى طبيعة التطور وقاعدته الاجتماعية لنجد في الفنون ما يوضح ذلك أكثر. وفي تحولات الانطباعية يزيد الوضوح. فنحن نعرف كيف اختفت مع الانطباعية الصورة الرسمية التي ترضي الطبقة البرجوازية لتحل محلها صورة الحياة اليومية البسيطة. ألوان الفصول والشوارع والشواطئ والقرى البسيطة أمثلة لذلك.
ليس الفن جاء بنتاجاته لتحضر في الصالات لكنها أصلا حضرت بقوة أكثر في الحياة وفرضت وجودها الأكثر فعلا هناك. وحتى حينما تكون في الصالة فهي على أمل ان تفعل أو تترك أثراً في الحياة. وهكذا صرنا نرى صوراً لفتيات جميلات غير أنهن غير متأنقات ولسن من البلاطات أو الصالونات. ليست واحدتهن دوقة أو أميرة أو عشيقة فنان. مصدر الانبهار هنا صار شعبيا أو من عموم حركة الحياة.
انموذج آخر غير معنى به سابقا حضر الآن. أعني نماذج بيسارو ومونيه ورينوار، امثلة جيدة لذلك.
تحول آخر حصل مع تزايد وتعمق حضور الاعتيادي او الشعبي وتزايد اهميته الاجتماعية. ومازال مثلنا الانطباعية فنقول كانت انطباعات الانطباعيين سريعة خاطفة وكانت تصور الطارئ والاشياء غير المستقرة لكنهم انتقلوا الان الى تصوير الثابت في الطبيعة وفي الحياة. وهذا نتيجة ثبات القيم الاجتماعية الجديدة والمكاسب الاجتماعية التي تحققت في هذه المدة ولهذا ومن دون شك معناه
ودلالاته.
سنجد في مرحلة لاحقة، في الرسم وفي الادب، تحولاً آخر هو انحسار او “تجنب العقلي” حتى ان ابولنير رأى في التكعيبية، وهي مرحلة لاحقة رأى فيها اعادة تنظيم العالم.
هكذا تتزحزح القيم السابقة أمام تزحزح الهيمنات الاجتماعية ومع تقدم انموذجية اجتماعية جديدة أوسع وأكثر حضوراً. وهذا ما نبه مالرو العبثي بأن يدعو لتأسيس متحف فني تاريخي يتجاوز الزمن ليضم الآثار الفنية الأكثر سحراً وفتنةً والمعرضة للازاحة. هو احس بالخطر بالاكتساح الذي لا مفر منه بحضور الموج الشعبي أو الاجتماعي الذي يزداد تقدماً وسعةً كل يوم.
ومع تزايد الافكار المعترضة والاتجاهات المهددة بالإزاحة، اعتمدت الاعمال الفنية والادبية الجديدة روحَ الفن في أي موضع تتناوله. وكان هذا فرضاً من واقع جديد يجمع بين الشعبي او الاجتماعي العام والثقافي “السامي” أو الخاص. بعض هذا “المتميز” صار ضمن المكون الفني الاجتماعي الجديد. لم يعد كما كان بعيداً عنه أو متعالياً عليه. ثمة أعمال جمعت الحالين في لوحة واحدة او في رواية واحدة. إذاً هناك محصلة انتجتها الضرورة قبل الحكمة. سنرى بعد جيلين او ثلاثة ان هذه “الهجنة” الفنية والادبية صارت حاجةً وصارت مزيج عمل ابداعي اكبر واهم. هو أيضاً واقع تفاهم طبقي وأتلاف اجتماعي وتشارك في الثقافة لم يحصل من
قبل.
يمكننا ان نجد من بعد مثالا يجمع هذه الثقافات وهذا التعاصر الطبقي او المجايلة الاجتماعية في عمل لبيكاسو. فمثلما هو موضوع عام ومثلما هو يقدم نماذج اجتماعية، عيّنة، جمع هذا الفنان المنتبه لعصره اظهر العقل وما هو خارج العقل، الخاص والعام، المهذب الانيق والشعبي: قدّم المنظور متكاملاً. ذلك العمل هو “آنسات افينيون” التي رسمها الفنان عام 1907. واضح في هذه اللوحة الاحساس الجديد في الواقع والادراك الحسي للمستجدات الاجتماعية. وهنا لا نستغرب حضور هذا الانموذج إذا علمنا أن بيكاسو استقى اكثر من تصور اجتماعي ولم يعد، كما نعلم برجوازي صالون، وذلك بفعل ما استقى من فلسفات ورؤى اجتماعية شغلت المرحلة آنذاك...