مهند الخيكاني
الحديث عن السرعة في أصله هو حديث عن البطء. ليست السرعة والبطء المقصودان هنا، كما لو أنّهما مقارنة بين مركبتين، فالسرعة في المستوى الثقافي التحليلي - برأيي - أنها إدراك متأخر، بسبب أن البطء، فقد ما فقد من العناصر الثقافية، واكتسب ما اكتسب منها، وأجبر على ما أجبر بفعل عوامل التغيير، التي يقودها السياسي بالدرجة الأعلى، منعكسًا على الثقافي ثم الاجتماعي. الحديث عن السرعة وفق المنظور الثقافي، يختلف عن الحديث بين السرعة والبطء في حالتهما الفيزيائية. فهما في هذا الملتقى ليسا ندين أو ضدين يستحضر أحدهما الآخر، كما يحصل مع بقية الثنائيات، من قبيل الليل والنهار، الضوء والظلمة، إنما السرعة في هذا المطاف هي شيء من تحلل وانفكاك حدثا في البنية الداخلية للبطء، حتى تراجع وانحسر تدريجيا بعد ما خسر إيقاعه الثابت الرتيب الذي كانت ترعاه الثقافة السابقة، ثقافة المجتمع التقليدي، والأمية التكنولوجية، ورداءة التواصل بكلّ أنواعه، وصولا إلى حال التواصل الاجتماعي بعد سقوط النظام الدكتاتوري.
استمرار التغير في العناصر الأساسية للبطء، حدا به إلى منطقة التلاشي، وهيمنة السرعة على كل مفاصل الحياة، علما أن هذه السرعة هي سرعة تتضمنها الثقافة المادية، وتطغى على المجتمع، في حين أن الثقافة المعنوية تعاني أزاء هذا التبدل المرعب بين لحظة ساكنة إلى اخرى من الوميض. العادات والتقاليد والقيم تشبه عدائين يحاولون من دون جدوى، مواكبة الوافد الجديد، وهذا الوافد الذي تربّى في حظيرة ثقافية هي حظيرته الأم، وترك شيئا من الآثار السلبية على بيئته، وهي الحاضن والمرضع، فكيف ببيئة ثقافية «تقليدية» أو في أحسن أحوالها «انتقالية»، ردم الأودية والتصدّعات التي خلفها هذا التمزّق؟ التمزّق الناتج عن الانطلاق من حدود حركة البطء الى أقصى سرعة منفلتة وعشوائية لا تحكمها قوانين. ولو أخذنا الرسائل الورقية والرسائل الإلكترونية نموذجا يمثل شيئا من هذه التحولات، يمكن ملاحظة الآتي في الرسالة الورقية:
أولا/ البطء: يعني التأمل. الامعان. الاصغاء. الامتزاج مع الشعور. واختيار الكلمات بدقة. لأجل توصيف محكم ورصين وسلس يجري كماء النهر.
ثانيا/ القيمة: لن يستهلك الكاتب رسالته بالإسفاف والسوء ربما؛ لأنها محدودة في مساحتها وفي طريق إيصالها، لهذا يميل الى التعامل معها كشيء ثمين لا يجب إهداره من دون تحقيق هدفه المرجو. وهي مكتسبة وليست أصيلة، تفرضها صعوبة النقل والتوصيل والمراحل التي تتضمن ذلك حين لا تنتهي بمرحلة واحدة.
ثالثا/ اللمس: الأشياء التي نلمسها ونراها، غير التي نراها فقط. والتي نشمها غير التي تتجلى بلا رائحة. الورق يصبح مخلوقًا حيًا حينما يحمل الكلمات، الكلمات هنا هي الروح بينما الورقة هي الجسد، تطير الورقة عبر محتواها نحو غاية معينة، لكنها قبل ذلك كانت تحلّق عبر بياضها في حدود لا متناهية، الكلمات هي من تحدد لذلك البياض غايته. وكلما تضاءل البياض في الورقة، كلما أصبحت تلك الورقة هجينة، تجمع بين عالمين بلمحة. كذلك يمكن للورق أن يُحفظ لعشرات السنين، ويمكن للعين أن تجري بين منعرجات الحروف ومنحنيات الكلمة المخطوطة عبر القلم. تلك الخطوط المتعرجة، تحمل في جنباتها روح الكاتب، وارتعاش الحياة على جسم تلك اللحظة المفتونة بالقول والتعبير.
رابعا/ الحضور: للرسالة الورقية حضور مادي/ معنوي، يشابه قليلا صاحبها، فهي شيء منه، يحضر لدى الآخر، يلامسه ويتداخل معه عبر تلك الأصابع والحواس، هذا الحضور يعطّل التعجل في إطلاق الأحكام الحادة والأقوال النبيذة، كما لو أنهما وجه لوجه. وخصوصا بين الحبيبين، ويمكن أن يخدم ذلك الحضور أغراضًا أخرى تنتمي الى الشدة والقسوة.
وفي مقابل ذلك تنطوي الرسالة الإلكترونية على مزية السرعة - أي - سهولة النقل والتوصيل، وهو ما يجعل المراسلة ممكنة في أي وقت، وتحت أي ظرف، فضلا عن سهولة انحيازها الى الثرثرة واللهو وإضاعة الوقت.
ولعلّ (كونديرا) كان من أوائل المستشرفين لمساوئ هذا التحول في روايته «البطء»، هذا ولم يكن بعد قد شهد ثورة التواصل الاجتماعي، حيث صدرت الرواية في منتصف التسعينيات، كذلك في روايته «الكائن الذي لا تحتمل خفته»، وفي كثير من أعماله الأخرى، إذ كان الجنس وما طرأ عليه من تغيرات واحداً من الأطر الأساسية التي عالج بها التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية للإنسان، ولم تكن مجموعته القصصية «غراميات مرحة» بمعزل عن
ذلك الطرح.