ثلاثون سنة في الذاكرة الصحفية

ثقافة 2023/07/25
...

 وارد بدر السالم

يختصر الزميل الصحفي سعدي السبع في كتابه " الذاكرة الصحفية" أكثر من ثلاثة أجيال في دائرة وظيفية عراقية نسميها "الصحافة"، تبتعد عدستها وتقترب في حركة تكاد تكون ثابتة من منظور تجربة شخصية، كانت تتحرك ضمن الدائرة ذاتها في ظروف سياسية معروفة؛ إذ تبدأ هذه الذاكرة من عام 1967 وتنتهي عام 1997، وهذا يعني بأنها محددة بثلاثة عقود، كعمر صحفي يعد طويلا في السياقات العراقية وسياساتها وتأثيراتها على النوع الصحفي، الذي كان سائداً في أوقات معلومة من الحياة المهنية لأي صحفي عراقي.

كثير من الصحفيين العراقيين لم يدونوا يومياتهم، ولم يتداركوا التوثيق العلمي والاجتماعي والفني والإنساني في كتاب أو كتب. 

بمعنى لم يعيروا لتقادم الزمن أهمية خاصة. وستبدو أية مذكرات هي استحضار الماضي ومفارقاته وتقاطعاته السياسية أو المهنية أو الوظيفية أو كلها مجتمعة بتسلسل زمني. 

ومهما تكن السيرة الصحفية في ذاكرتها الوظيفية والمهنية حاضرة ومتوهجة، بالرغم من مرور سنوات وعقود عليها، فإنها ستخضع لتراتبية زمنية كمطلب تاريخي توثيقي. 

تبدأ من الولادة والاهتمامات المبكرة في القراءة، وتمر في سلسلة وظيفية متعددة الأمكنة، ثم تنتهي الرحلة- الوظيفية - الشاقة إلى التقاعد.

أحسبُ أن الزميل السبع لم يغادر هذه الدائرة في كتابه "الذاكرة الصحفية"، فالتردد المزمن الذي اختمر في ذاكرته على مدار ثلاثين سنة، جعله يكتب بحذر واقتصاد وتلميحات مختصرة، من دون الخوض الجريء في حقبة زمنية مكتظة بالقلق والمفارقات السلبية، التي دجّنت الصحافة لصالحها، مثلما كرّست مفاهيم سلبية في الحياة الشخصية للصحافة، بوصفها سلطة رابعة، غير أنها في الحقيقة كانت سلطة فاشلة وتابعة إلى النظام وأبجدياته الحزبية، ولم تتمكن من أن تتفرد بطبيعتها المهنية وواجباتها الأخلاقية؛ وهذا الوضوح قد يقودنا إلى استنتاج بأن في عموم ما قرأناه من مذكرات صحفيين عراقيين،على قلتها، أنها بلا أفكار ولا تجارب ولا تثير جدلاً معرفياً أو سياسياً، ولم نقرأ ولا مرة واحدة بأن صحفياً عراقياً حقق معجزة صحفية على مدار سنوات العمل المهني التي عايشناها. 

سواء بالكشف الميداني والاستقصائي، أو التنظير الفكري والسياسي الجدلي. 

وفي هذا لا يقع اللوم على الزميل سعدي السبع، فالتجارب المحدودة تقود إلى محدودية الكشف عن وقائع وحقائق، وقد لا تثير حواراً جاداً مع الحقب الماضية، إلا بالقدر البسيط. ونعرف بأنه كلما اتسعت التجربة زادت من قيمتها الاعتبارية. 

وكلما دخلت في المخاطر المهنية اتسعت رؤية الصحفي بها، وقوّت من وعيه ابتداءً من الاجتماعي اليومي حتى السياسي العام. 

ولدينا من الأمثلة الأجنبية والعربية ما يكفي، لأن ننظر إلى العمل الصحفي المهني بثقة.

من المعقول هنا أن نستذكر الصحفي محمد حسنين هيكل. فهو ليس حبيسَ جريدةٍ ومكتبٍ وقلمٍ ووظيفةٍ وحزب، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك كمحاوِر ومثقف وأديب وصاحب رؤية سياسية وفكرية جدلية في شؤون المجتمع المصري، من زواياه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. 

وقد يجد الصحفي العراقي نفسه في دولة حروب وتناقضات فكرية وصراعات نفسية غير قادر على أن يكون مثل هيكل وغيره من الصحفيين والكتّاب العرب والأجانب، لأسباب مفهومة، لكنها أسباب ليست كافية أن نعزل أو نقوّض الجوانب الخفية مما كان يجري في الحياة العامة من سياسات كارثية، أطاحت بالبلاد والعباد على مر تاريخها. 

لذلك نرى في ما نقرأه من مذكرات "عابرة" لا تؤدي غرضها الأدبي المطلوب، لأنها ليست تحليلية ولا مصدرية وتفتقر إلى الشواهد الكبيرة التي تجعل منها وثائق زمنية جارية.

لو قرأنا " الوجدان - مذكرات فائق بطي" لوجدنا الهاجسين الصحفي والسياسي متداخلَيْن ببعضهما بما يؤرخ لسيرة بلاد، لم تأخذ من "الذاتي" مشروعَ كتابة، إلا لأن الذات الشخصية مناطة بحمل نصف قرن من الزمان، ابتداءً من أربعينيات القرن الماضي حتى التسعينيات منه. 

ومع كل الجهد الذي بذله بطي، إلا أنه لم يأت بنظرية صحفية خارقة يمكن لها أن تصمد مع الزمن وتوطّد صلتها به.

سوى من أحداث قد تكون مصدراً لشاهد عيان، عاش تلك المرحلة من تاريخ الصحافة العراقية، ورأى بعينيه ما رآه الجميع آنذاك. 

حتى الرائد الصحفي  شاكر علي التكريتي وهو الذي عاش عهود الدولة العثمانية والملكية والجمهورية، كان يقول بأنه صحفي من الدرجة "العاشرة" فهو يُدرك بأن ما لم يقله هو الأكثر مما قاله وكتبه في (مذكراتي وذكرياتي هذه)، فوعيه الباطني نتيجة خبرته بالحالة السياسية جعله أكثر تردداً وخوفاً من بطش السلطة المتوقع، وبالتالي رحل ومعه أسرار لم يكشفها وكان يمكن أن تكون وثائق زمنية غير عادية. 

والشواهد الصحفية كثيرة التي تشفُّ عن خوف مزمن عند الرواد ومجايليهم وعلى مر الحكومات والأحزاب، بما يُفقدها التوثيق والمتعة التي تنطوي عليها مثل هذه الكتابات الرائجة في العالم.

نرى في المذكرات العراقية اختلاط الصحافة بالسياسة والأدب، فهذه وحدة متكاملة كما يبدو في تتبع الأثر الاجتماعي المتأثر بهذه الموازنات، التي تسير معاً على مر تاريخ العراق السياسي والصحافي والاجتماعي والأدبي، كما في " الأحلام- 1963 لعلي الشرقي" و"مذكرات عبدالكريم الرزي" و"مذكرات صبيحة الشيخ داود" و"ذكريات وادي الرافدين" لأنور شاؤول و"بغداد كما عرفتها" للحاج أمين المميز و"أسرار مقتل العائلة المالكة في العراق" لفالح حنظل و"هنا برلين حي العرب" ليونس بحري. وغيرها من عشرات الكتب.

لا نقول عن الزميل المجتهد سعدي السبع أكثر مما قلناه، بشكل عابر، عن نماذج رائدة في الصحافة العراقية. وبالتالي تحتاج أية ذاكرة صحفية وأدبية، ومذكرات وذكريات من هذا القبيل إلى شجاعة وجرأة وشهود وحقائق ووثائق وأحداث عامة غير منسية. 

والزميل السبع حشّد في كتابه أسماء كثيرة نعرفها ولا نعرفها، من صحفيين وأدباء وعاملين في الصحف وموظفين وأصدقاء، ليزيد من وثوقية استدراكاته المهنية التي عاشها في ظروف غير طبيعية، لكنها بقيت تدور في الحلقة الوظيفية ذاتها، وتكررت الأسماء والصحف والمواقع الوظيفية والصحفية وهي قليلة، كأن الكتاب بطريقة عرضه، مع المسميات الكثيرة التي رافقته، كفضاء مسرحي له حدود وثوابت وأسوار، يتوجب عدم انتهاكها، لذلك فحتى الذاكرة القوية لا يمكنها أن تتخطى قدر الكتابة المحاط بالعيون ومفتشي الأوراق.

ومهما كانت شجاعة الصحفي في قول ما لا يُقال تبقى مرهونة بالرقابة الذاتية قبل أن تُرتهَن بالرقابة الرسمية، ربما لأسباب اجتماعية وأخلاقية، ومن ثم سنخسر الكثير من الحقائق المُغيّبة عندما تتحكم الرقابة الذاتية بالكتابة حتى بعد زوال الخطر.