{هنا يكمن الفراغ} قراءة في شعر ديريك والكوت

ثقافة 2023/07/25
...

  حربي محسن عبدالله 

ثمة حشد من الأزمان، وأمواج من الحياة، ورحلة شيقة في تجربة شعرية متفردة بصورها، تأخذنا إليها مختارات شعرية تحمل عنواناً هو {هنا يكمن الفراغ} للشاعر والكاتب الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1992، ديريك والكوت، المولود في سانتا لوشيا إحدى جزر البحر الكاريبي، في عام 1930. صدرت مؤخراً عن دار التكوين في دمشق، من ترجمة وتقديم: غريب اسكندر.

نحاول هنا أن نسافر عبرها بعيدا، حيث "تهبُّ االريح وتتسابق الظلال كالأسى..أفتح كتبهم كي أرى صورهم البعيدة..التي غالباً ما تقترب لتصل.. فأسمع أصواتهم.. في صفحةٍ غائمةٍ.. مثل الأمواج المتكسّرة في رأسي" كما يقول الشاعر. 

تتنوع أعمال هذا المبدع الذي يُعد أحد اكبر شعراء العالم بين كتابة الشعر والمسرحية والمقالة والبحث. 

ومن أبرز أعماله (أوميروس) وهو عمله الكبير الذي أعاد فيه صياغة إلياذة وأوديسة هوميروس لكي تصور محيطه الكاريبي حيث البحر وحكايات الناس اليومية. 

وقد فازت مجموعته الشعرية الأخيرة (البَلَشون الأبيض) Whit Egrets بجائزة تي سي إليوت لعام 2010 التي تُمنح سنوياً لأفضل مجموعة شعرية صادرة بالمملكة المتحدة وايرلندا. 

ولكي نقف على مدى زخم الحياة التي عاشها الشاعر زائراً لبلدان عديدة، ومتقمصاٌ لروح رحالة تمور بين جنباته لتتنقل بين صقليا واسبانيا وايطاليا ولندن وامستردام وبرشلونة وسومطرة، ثم يعود إلى موطن روحه عند جزر الكاريبي حيث طيور البلشون الأبيض وطائر مالك الحزين، ليصوّر ما عاش من تجارب روحية وحياتية متعددة المستويات عبر قصائده المختلفة المواضيع.

فحب الحياة والموسيقى والغناء والبحر حاضر بقوة الكلمات نفسها، التي يتأمل فيها التيه واللاجدوى والشيخوخة والموت والغياب، تجعلنا نتأمل غزارة حصيلته اللغوية التي تعكس مدى زخم وعمق تجربته الإنسانية والمعرفية.  

قبل أن نلقي الضوء على بعض مما بين يدينا من صور شعرية، نتوقف قليلاً مع عالم لغوي هو "لويس تيرمان" ونستضيء بما قاله حول "الحصيلة اللغوية والذكاء اللغوي"، فالغزارة والجزالة في أي فن من فنون اللغة وآدباها تعتمد على تلك الحصيلة بل هي أداتها ووسيلتها. 

والشعر كل الشعر وصوره منها.  يقول تيرمان إن "الاختبار اللغوي له قيمة أعظم من أي اختبار آخر للذكاء" ويحوي هذا الرأي عدة توجيهات، فهناك علاقة طردية بين ذخيرة الفرد من الكلمات ونسبة الذكاء. 

لأن الذكاء يسوق إلى التفكير، والتفكير يسوق إلى اكتساب المادة المعرفية التي يعمل فيها الفكر، والمادة المعرفية المكتسبة تقود في العادة إلى البحث عن اللغة التي تنقلها، وتعبر عنها وتقايض بها أفكار الآخرين ومعارفهم، وبهذا يتكون الرصيد اللغوي الغزير ليكون دليلا على الذكاء أو مشيراً إليه.

من المعروف إنه كلما زادت نسبة الذكاء العقلي للفرد زادت قدرته على فهم ما يقرأه أو يسمعه من الجمل والعبارات ومن ثم اتضحت له العلاقات بين المفردات اللغوية ومدلولاتها، وبالتالي زادت حصيلته اللغوية، وعلى العكس من ذلك تقل حصيلته اللغوية.

وبناء على ذلك يمكن أن تكون ذخيرة الفرد الوافية من مفردات اللغة  ومهاراته اللغوية دليلا على سعة تفكيره ونمو ذكائه. مما لا شك فيه أن عملية اختزان المفردات اللغوية، ومدى المرونة في البحث عنها في الذاكرة والاستجابة للمثيرات أو المنبهات، التي تستدعيها أو تستحضرها في الذهن، ثم مدى القدرة على ربطها بما يتناسب معها من أفكار أو مفاهيم كلها أمور تدل على نسبة نمو التفكير وسرعته، وبالتالي فإن الثراء اللغوي لا يدل على ثراء ثقافي فحسب وإنما على خصوبة في التفكير. 

وهذا ما نجده عند ديريك والكوت، الذي يمتلك ثراءً ثقافياً بقدر خصوبة فكره وثراء تجربته الإنسانية. في الحب نقرأ له من قصيدة "في ايطاليا":

"لو كانت هذه الكلمات حصىً ملونةً..أو برك ماء صغيرة يشرب منها مالك الحزين الأزرق...

وفي قصيدة "شبح الإمبراطورية"  يقول: الدخانُ خطيئةُ النار.. لذلك حيثما تجوّلَ في سوفرير، في سومطرة... أو أي بركة مسدودة بهياكل السفن الغارقة ودخان النفايات الملتف كراية... يسافر مع خطيئته.. مع مناجمه المنهارة.. وثرواته التي نخرتها الرهانات... فيعبر ملعب الكريكيت مجتاحاً بقايا الحصاد... وانطلاق سرب بلشونات ناصعات البياض".