جول فيرن (1828 - 1905) رائد أدب الخيال العلمي
علي العقباني
شهد العالم وخصوصاً أوروبا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحولات وقفزات دراماتيكية ونوعية في مختلف النواحي العلمية والصناعية والاقتصادية والتجارية والثقافية والفنية، عمت مختلف وجوه ومجالات الحياة آنذاك، فقد شهدت الحياة العملية تطورات مذهلة في آلية الصناعة في أوروبا وانتشرت الطاقة الكهربائية واستخداماتها المختلفة والكثيرة، وظهرت الأجيال الأولى من السيارات وتوسعت شبكات الخطوط الحديدية وخطوط النقل البحري، وأصبحت الحياة أكثر بساطة في التنقل والعمل وتبادل المعلومات، وتسارعت حركة التجديد والحداثة في الأدب والفنون عامة.
وخلال تلك الحقبة بلغت الرواية والقصة الأوربية كما يرى الكثير من النقاد قمة النضج والعمق والاتساع، على أيدي عدد كبير من الفنانين والكتاب، الذين فتحوا آفاقاً جديدة في فنون النحت والعمارة والرسم والموسيقى والشعر والرواية والمسرح، بما يتوازى وربما يتقدم على حركة الإنجازات العلمية المتوالية والمتسارعة بوتيرة عالية، وكل ذلك من اختراعات أسهم فيها العقل والخيال البشري مهدت لعصر الطيران، وهو العصر الذي سيغير الكثير من المفاهيم والاعتبارات في أوروبا والعالم، وتطورت آلية التصوير الضوئي، لتوليد السينما من المزاوجة بين التقنية الجديدة وعلم البصريات وفنون المسرح والرسم والسيرك والموسيقى والرقص والغناء ونشهد ولادة الفن السابع.
في كل تلك الأجواء المحمومة من التحولات والاختراعات والاكتشافات المذهلة والتي ستغير وجه العالم، ظهر الكاتب الفرنسي جول فيرن ليمهِّد دروباً وعرة ومختلفة في نوع أدبي جديد سيُعرف فيما بعد بأدب” الخيال العلمي”، وتلك الظاهرة تشكلت من خلال المزاوجة بين أدب الرواية والقصة وشطحات الفكر والخيال المغامر غير المحدود في مجالات العلوم والمعارف القديمة والمستجدة في علوم الجغرافيا والفيزياء والأجناس والتاريخ والرياضيات والحيوان والفلك والبحار والبيئة والجيولوجيا والفضاء والكيمياء وعلم النفس والطب والحب والسحر.. وربما الاقتصاد والفلسفة، وتجاوزت تأثيرات فيرن على الأدب في أوروبا والعالم إلى التأثيرات المباشرة في العلم والتقنية والاختراع والابتكارات الصناعية والعلمية المثيرة، بحيث لا يمكن مقارنته بكل ما يملك من خيال جامح بأي مفكر أو كاتب آخر أو مخترع أو عالم سوى أديسون أو آينشتين على أقل تقدير.
خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كتب الفرنسي المثير للدهشة جول فيرن (Jules Verne) سلسلة كتب هي عبارة عن «رحلات غير عادية» كتبها في خمسة وستين عنواناً مختلفاً، يتخيل فيها ما يمكن أن يحدث في المستقبل القريب والبعيد، وربما كانت بعض تلك الاكتشافات أو الخيالات في طور الاكتشاف، كما أن الدقة العلمية في حسابات جول فيرن لم تكن مختلفة عن الدقة العلمية لدى المخترعين، فهو في حساباته كان يستعين بخبرات صديقه وقريبه مدرس الرياضيات البروفيسور هنري غارسيه.
وحول هذا يقول فيرن لمراسل إحدى الصحف: “ أنجزت ببساطة روايات علمية بمعزل عن الإنجازات الباهرة، ولم يكن هدفي هو التنبؤ، وإنما نشر المعرفة الجغرافية بين الأجيال الشابة بأقصى ما استطعت من الإمتاع. إن كل معلومة، أو حقيقة، جغرافية أو علمية، ظهرت في كل كتبي، خضعت للتدقيق في حرص شديد، فعلى سبيل المثال لو أنني لم أشر إلى نقص يومٍ، في الدوران حول العالم (شرقاً) في رواية «حول العالم في ثمانين يوماً» لما كانت كتابة هذه الرواية مجدية، وحملت رواية «الجزيرة المسحورة» بداية رغبتي في كشف بعض عجائب المحيط الهادئ أمام جيل الشباب في العالم” .
اكتسب هذا النوع الجديد من الكتابات شهرة واسعة بين ملايين القراء في لغات مختلفة، والكثير منها أصبح أو كان أساساً أو ملهماً أو موحياً لقصص الخيال العلمي عند كثيرين من كتاب هذا النوع، وتحول عدد كبير منها إلى أفلام سينمائية مثيرة، منذ بدايات السينما الصامتة، حيث قدم جورج ميليه فيلم «رحلة إلى القمر» 1902، بينما تحولت أفكاره وصوره الخيالية إلى اختراعات ومنجزات مألوفة، بعد نصف قرن أو بعد قرن من ولادتها، وكانت بداية مبكِّرة لمشروعات غزو الفضاء والكواكب.
روايته الأشهر عالمياً «ثمانون يوماً حول العالم» تحمل في كل يوم منها عناصر مختلفة من التشويق والإثارة والغموض والاكتشاف، فالرواية تضم سبع رحلات في رحلة واحدة، تبدأ من لندن وتنتهي فيها، مروراً بميناء السويس ثم بومباي وكالكوتا وهونغ كونغ ويوكوهاما وسان فرانسيسكو ونيويورك، وفي كل رحلة من تلك الرحلات مفاجآت ومصاعب طارئة تواجه المغامر فولياس فوج وتابعه باسبارتو، وهما في سباق مع الزمن للدوران حول الكرة الأرضية في ثمانين يوماً، في رهان شجاع مندفع ومجنون ومغامر مسكون بروح التحدي والرغبة في اكتشاف العالم، على ظهور البواخر والقطارات والعربات واليخوت والفيلة والزحافات وغيرها.
لم يكن فولياس فوج بطل رواية فيرن طامعاً بالنقود التي يربحها في الرهان، الذي بدأت منه الرحلة فقد ربح معرفة العالم، واكتشاف المجهول والجديد بألوانه وجماله وسحره وعوالمه المتناثرة بين خطوط الطول والعرض، وأهم من هذا وذاك ربح قلب أرودا، الحسناء الهندية التي تزوجها، وقد ألهمت تلك الرحلة منذ ذلك الحين المغامرين في الدوران حول العالم في منطاد أو طائرة خاصة أو في الخيالات والأحلام على طريقة الفرنسي العجيب جول فيرن.
مما لا شك فيه أن كتابات فيرن أثرت في أهم العلماء والمخترعين واكتشافاتهم وإنجازاتهم،وقد اعترف كثير منهم بهذا التأثير، كما فعل «سيمون ليك»، مخترع الغواصة، الذي أشار إلى اعتماده على المبادئ التي طرحها فيرن في الغوص في أعماق البحار، أما (لاسيرنا) مخترع الطائرة المروحية التي كانت تدعى في البداية «أوتوجيرو» فإنه كان يؤكد أنه مدين لأعمال فيرن أيضاً، ولم تكن المحطات والأقمار الصناعية والمجسَّات والمسابر الفضائية بعيدة عن أفكاره، لذلك سنجد مثلاً أن صورة الغواصة التي أطلق عليها فيرن اسم «ناوتيلوس» لم تولد إلا بعد خمسة وستين عاماً من وفاته، أما المرصد العملاق الذي تخيله فيرن منصوباً في قمة جبل فهو يشبه المرصد العملاق في قمة جبال «بالومار»
من بين أهم الرحلات غير العادية التي كتبها فيرن «رحلة من الأرض إلى القمر» و«ثمانون يوماً حول العالم» و«رحلة إلى باطن الأرض» و«عشرون ألف ميل تحت البحر» و«حول القمر»، ومن هنا يمكن أن يوصف جول فيرن بأنه موسوعة علمية مستقبلية حية، جاء إلى العلم من باب الأدب والخيال العلمي الجانح نحو المثير والجديد، وإلى جانب ذلك، فهو مغامر جريء يحمل في جعبته المفاجآت السارة أو المحبطة التي تنعش القارئ أو تزكي في داخله روح التحدي ورفض الانكسار والهزيمة أمام قوى الطبيعة الضارية، كما هو حال أبطاله في الرحلات الفضائية والبرية والبحرية، أو كما تشير إليه عناوين مؤلفاته الأخرى، مثل: مغامرة في إفريقيا، صحراء الجليد، مغامرة الكابتن هوتراس، مغامرة ثلاثة من الروس وثلاثة من الإنكليز، كابتن في الخامسة عشرة من العمر، خمسة أسابيع في بالون. وفي كل هذه العناوين وغيرها يسيطر عنصر التشويق والإدهاش على القارئ.
لا أحد منا سينسى عبارة - جول فيرن 1828 - 1905 الشهيرة التي يقول فيها : “ما يمكن أن يتخيله إنسان في هذا اليوم يمكن أن ينجزه إنسان آخر في يوم آخر”وهو ما تحقق كثيرًا اعتماداً على ما كتبه وتخيله في رواياته.