ميادة سفر
في كتابه قصة الحضارة يروي المؤرخ الأميركي ويل ديورانت حكاية تظهر أجواء الخوف والرعب التي انتشرت في أوروبا في القرون الوسطى، عبر سرده قصة كاهن كاثوليكي مات قبل الثورة الفرنسية بنحو ستين عاماً، إنه الأب جان مسلييه الذي ستغدو أفكاره شعارات للثورة التي غيرت تاريخ فرنسا، ورافداً لفكر التنوير في القرن الثامن عشر، وملهماً لكثير من المفكرين والفلاسفة الذين سيأتون من بعده، سيرتبط اسمه بالريف الفرنسي حيث سيمضي فيه جلّ حياته، فقد ولد في مازورنيه في مقاطعة شمبانيا عام 1678 وتوفي في عام 1733 للميلاد، أمضى طفولته في تلك القرية وحصل على تعليمه الأول ليكمل دراسته اللاهوتية بناء على رغبة والديه، ويعين كاهناً لبلدة إتريبني وهو في عمر الخامسة والعشرين وفيها سيقيم حتى وفاته، وهناك سيخطّ الكلمات التي ألهمت الفكر الحر لاحقاً.
كان جان مسلييه مثالاً للرجل الصالح المتفاني في خدمة الرعية، محبوباً من قبل رعيته لاسيما أبناء الطبقة الفقيرة والفلاحين الذي سيكون بؤسهم وآلامهم واضطهادهم الملهم والحافز الأول والأساسي لتلك الوصية التي تركها بعد وفاته والتي ستكون وبالاً عليه من أولئك أنفسهم الذين أمضى سنوات حياته في خدمتهم ومساعدتهم، وهو الذي لم يكن يأخذ أية أجور منهم لقاء أي عمل يقوم به من أمور الزواج والجنازة، وكان يمنح دخله للفقراء بعد تسديد نفقات حياته البسيطة والبعيدة عن الإسراف، وسيتبرع بقطعة الأرض التي يملكها للفلاحين بعد موته، إلا أنّ كل تلك الأفعال الحسنة التي قام بها لم تشفع له حين سيكتشف أهالي القرية تلك المخطوطة التي أمضى سنواته الأخيرة في كتابتها، وفيها يهاجم الكنيسة والسلطة السياسية والإقطاع، ويدعو المضطهدين إلى النضال ورص الصفوف للتخلص من نير الاستعباد الذي يرزحون تحته، سيعود هؤلاء الذين لم يقرأ معظمهم ما خطه قلمه، وينبشون قبره ويمثلون بجثته انتقاماً منه بعد أن حضرهم رجال الكنيسة والسلطة لفعل ذلك بحق الرجل الذي لم يرجُ إلا خلاصهم ورفع الظلم عنهم، ويبدو أنه سينتظر سنوات عدة قبل أن يعترف بدوره وأهمية أفكاره وينشر كتابه من قبل رودولف شارل عام 1864.
حين شعر الأب جان مسلييه بدنو أجله، وجد في نفسه القوة والقدرة على قول ما اختمر في رأسه من أفكار وما اعتمل في نفسه من هواجس، وهو المسكون بهموم الفلاحين والفقراء التي تزداد قسوة بالتوازي مع تنامي جبروت أصحاب السلطة الدينية والسياسية، رأى أنّ الأوان قد آن ليجهر بحقيقة العلاقات البشرية والدين والدولة والنظام الاجتماعي، غير آبه بما سيلقاه بعد موته وكأنه كان مدركاً لردة الفعل تلك التي طالت جثته وشهرت به، معبراً عن ذلك بما كتبه وختم به مخطوطته قائلا: “بعدئذ لن أبالي البتة بما يفكرون، ويحكمون، ويقولون ويفعلون في هذا العالم، فأنا من الآن أكاد لا أشارك في ما يحدث في العالم، إنّ الأموات الذين سألتحق بهم عما قريب، لا يبالون في شيء ولا يهتمون لشيء”.
شكلّ النظام الاجتماعي القائم وتجاوزاته واللامساواة هاجساً لدى مسلييه، ظلّ يؤرقه طيلة حياته من دون أن يتمكن من البوح بمكنونات صدره، بسبب أجواء الرعب والخوف التي انتشرت في أوروبا في تلك الأوقات، والبطش الذي مارسته الكنيسة ومحاكم التفتيش، فضلاً عن انتقام الناس البسطاء المؤدلجين، وقد تجلت تلك التجاوزات بالتفاوت الكبير في أوضاع البشر، فقد رأى مسلييه “أنّ بعض الناس كأنما ولد ليفرض سيطرته وطغيانه على الآخرين، وليحصل على ما يبتغيه في هذه الدنيا، في حين يبدو البعض الآخر وكأنه ما ولد إلا ليحتل مكانه في عداد الأشقياء والعبيد البؤساء، وليرزح تحت نير العذاب والشقاء” فكانت دعوته إلى المساواة الاجتماعية ومشاعية الممتلكات والثورة ضد المجتمع الطبقي، تلك التي اعتبرت من أوائل الدعوات الاشتراكية في القرن الثامن عشر، فكان أول شيوعي ملحد، وأول من تكلم عن الصراع الطبقي، وأول من نظّر لتأسيس مجتمع لا طبقي، من خلال العمل الثوري الذي لابدّ من أن يكون عملاً شعبياً جماعياً لكي يحقق أهدافه، تلك الأفكار سنجد أصداءها بعد قرون في مؤلفات كارل ماركس وفلاديمير لينين وغيرهم ممن نادوا بالفكر الاشتراكي والشيوعية.
في ذلك الكتاب الذي تركه يهاجم جان مسلييه الدين بقوة وهو ابن الكنبسة وراعي إحدى أبرشياتها، إلا أنه ظلّ طيلة حياته رافضاً لكل ما يمارس باسم الدين وما يفرض على الناس من إتاوات وضرائب لا تسهم إلى في ازدياد ثراء الطبقة المالكة وتفشي الفقر والفاقة أكثر فأكثر في صفوف المواطنين، فقد رأى أنّ “الخلافات الدينية زعزعت أركان الإمبراطورية وأدت إلى الثورات ودمرت الملوك وخربت أوروبا بأسرها، ولم يكن ممكناً إخماد هذه النزاعات حتى بأنهار من الدماء، وأنّ أنصار المتحمسين إلى دين يدعو إلى البر والإحسان والتآلف والسلام، أثبتوا أنهم أشدّ ضراوة وقساوة من أكلة لحوم البشر والمتوحشين، في كل مرة يستثيرهم فيها معلموهم إلى تحطيم إخوتهم”.
اعتبرت أفكار مسلييه ثورة في ذلك الوقت الذي ظهرت فيه، فقد اعتبر أنّ المصدر الحقيقي لجميع الشرور التي تكدر المجتمع البشري وتنغص حياة البشر، يكمن في التحالف بين السلطتين الزمنية والروحية أي بين الدين والدولة، ذلك التحالف الذي يهدف إلى السيطرة على الإنسان وإبقائه مستعبداً، فالدين برأي مسلييه يدعم الحكم والسلطة السياسية ولو كانت في غاية السوء، والحكم بالمقابل يدعم رجال الدين ولو كانوا في غاية الحماقة، ويرى أنّ ممثلي السلطة الروحية يرغمون الناس تحت طائلة اللعنة الأبدية على الانصياع لممثلي السلطة الزمنية (السياسية) مقابل أن يضمن لهم هؤلاء المداخيل الجيدة.
أراد الكاهن جان مسلييه عبر تلك الكتابات أن يوقظ الشعب على الأوضاع المتردية التي يعيشها، ويحرضهم على المطالبة بحقوقهم المستباحة من قبل طبقة المستغلين، وبرأيه أنّ ذلك لن يتم إلا بتخليص الطبقة المستغلة من أهم سلاحين بيدها، وهما الدين والملكية الخاصة، وبذلك فقط يمكن تحرير الفلاحين والفقراء أو ما بات يعرف لاحقاً بطبقة البروليتاريا من ربقة الظلم والاستغلال.
إن الحديث أو تسليط الضوء على مفكر يعود إلى القرن الثامن عشر ليس من باب الترف الفكري والاستعراض التاريخي، إنما هي محاولة لقول شيء ما في هذا الواقع الذي تعيشه الكثير من شعوب العالم، فيما يبدو أن الأوضاع لم تتغير منذ قرون، لا شكّ أن أفكار مسلييه تصلح لكل زمان ومكان طالما بقي مضطهد واحد في هذه الأرض ما زال يعاني من الظلم والاستغلال أياً كانت أشكاله، لقد قدمّ جان مسلييه وهو الكاهن الملحد المتمرد مشروعاً فكرياً كبيراً أسهم في إشعال فتيل الثورة الفرنسية، وأسهم في رفد فكر الأنوار وإيقاظ الناس من سباتهم، ويبدو أنه سينتظر عقوداً قبل أن يتم الاعتراف به وبفضل أفكاره على التغيير الذي صنعته أوروبا، وهو الذي سيكرم إبان الثورة البلشفية بإقامة نصب تذكاري عرفاناً له.