تقنيَّة الوصف في رواية (نشيدنا الحزين)
رنا صباح خليل
تزخر رواية (نشيدنا الحزين) للروائي شاكر الأنباري بخصوبة وصفيَّة عالية، الأمر الذي يجعلها علامة مهمَّة في السرديَّة التي تُعنى بخلق واقع خيالي قابل للتصديق عن طريق تصوير الأمكنة المتعددة بلغة غنيَّة قادرة على التشخيص والإيحاء، فقد شكّل الوصف والحوار أبرز وسائل السرد الروائي فيها، وتعتمد فكرة الرواية على ثيمة غرائبيَّة تنسج حكيها من شخوص مغتربين عن أوطانهم، وقد ماتوا وهم مغتربون لتحفل المقبرة بأحاديثهم ليلًا بعدما يخرجون من قبورهم ليتذكروا ما عاشوه في بلاد الثلج والطبيعة الساحرة ثم تتوالى أقاصيصهم لوصف واقع مرّ عاشوه في أماكنهم الأصليَّة في العراق، وهو ما اضطرّهم لأنْ يقرّروا الرحيل إلى أصقاع بعيدة بأجوائها وشخوصها وطباعها، وهذه الأحاديث أخذت الروائي إلى أنْ يلجأ إلى الوصف لإبطاء الزمن السردي وإعطاء صورة ذهنيَّة عن أشخاص ومشاهد، وردم الفجوة السرديَّة التي قد تحدث في النصِّ الروائي، فضلًا عمّا يقدمه الوصف من معلومات للقارئ عن الفكرة العامة للروي، ومقصديَّة الكاتب، وتحديد طبيعة الشخصيات، فهو عنصر مساعد للسرد، ولا يمكن له أنْ يستغني عنه لكنَّ الروائي عمل على جعله نافعًا وأساسيًا بطريقة أخرى في سرده وتمكّن من استثماره بجعله مطوراً للحدث، فإذا كان السرد يعمل على كشف الأحداث، كان الوصف يُساعد على بناء لغة الحكي الذي يُروى على لسان صاحبه في الرواية، وفي الوقت نفسه حاول أنْ يُعطي أوصافًا عدّة للشخصيَّة وللمكان والموجودات وبهذه الحالة نستطيع القول إنَّ الروائي تمكن من استخدام هذه التقنيَّة بشكل فني وجمالي يدعم الروي بطاقات عالية من البوح والإفصاح.
إنَّ إتقان الروائي شاكر الأنباري المهارة اللغويَّة مكنّهُ من تشكيل صورٍ وأوصافٍ بمستوى عالٍ من الوضوح والإمتاع، ينطلق فيهما مرّة من وجهة نظر الراوي الذي يأخذ على عاتقه رواية الحدث القصصي ووصف شخصياته وأماكنه، ومرّةً من منظور الشخصيات، وفي كلتا الحالتين يستغل الروائي إمكاناته السرديَّة، وقد جاء هذا الاشتغال وصاحبه يُدرك أنه لا يمكن أنْ يتناول الوصف بعيدًا أو في معزل عن الموصوف، فالعلاقة بينهما علاقة سببيَّة تربط وتفسر السبب بمسببه، كما لا يمكن أنْ ينفصل السرد عن الوصف، والذي يعد ركنًا مهمًا في تشكله وهدفًا رئيسًا لكلِّ عمل، فتلك العلاقة الوطيدة يصعب فكّ رباطها أو الاستغناء عنها، ولما كانت العلاقة كذلك فلا بدَّ من تبيين أهمّ وظائف الوصف داخل العمل السردي. ولكن قبل ذلك لا بدّ من الإشارة إلى نقاط الفصل بينهما وأهمها نقطة المدى الزمني، فالمسار الزمني عند جيرار جينيت يولد التعليق، بينما الاستطراد قد يُحدث الوصف “إنَّ الوصف يتطلع إلى الأحياء والأشياء فيصفها في تزامنها وتعاقبها معًا؛ وهو حين ينصرف إلى الأحداث على أساس أنها مشاهد، سيعلّق مسار الزمن وسيُفضي تعليقه حينئذ إلى تمطيط الحكاية وتمييعها عبر الحيز، إنَّ هذين الصنفين من الخطاب يستطيعان إذن أنْ يبدُوَا أنهما معبران عن موقفين نقيضين إزاء عالم الوجود، إذ نجد أحدهما أكثر حيويَّة وهو (السرد) وأحدهما الآخر أكثر تأمليَّة وهو (الوصف)”(1) ومن النصوص التي تقدم سردًا في الرواية ما جاء في صفحة (7) منها “لدى وصولنا قالوا لنا وبوضوح إنه ينبغي عليكم، مستقبلًا، إثبات أنكم مواطنون أسوياء، كي يتاح لكم البقاء هنا. في هذا البلد لا مجال للعربدة، وخرق القوانين، وجلب فوضاكم إلى حدائق جناننا الممتدة من البحر إلى البحر. الاندماج في المجتمع ستعرفونه لاحقًا، وله ثمن باهظ. وافقنا على شروطهم، بدون تردد. وصلنا شبابًا فقيري الخبرة بالحياة، لا نعرف ما نريد، وحوّلتنا الحروب إلى عصائر من الألم والقلق”. أما ما جاء نصًا واصفًا نذكر في صفحة (96) “في عطلة نهاية الأسبوع وجدا القرية تسبح ببحر من الخضرة، والهدوء يخيّم على البيوت، إذ بدت للناظر كما لو أنها ترفل في سحر غير مفهوم. لا مارة في الطرقات، لا صوت يُسمع، لا نباح كلاب ولا صياح ديكة، وبسقوف بيوتها القرميديَّة الحمراء بدت وكأنها قرية خلّفها الزمن وراءه. حقول القمح والشعير تحيطها من جوانبها كافة، وتتمركز بيوتها الخفيضة المبنيَّة على الطراز القديم حول الكنيسة”.
والنصان السابقان يوظفان ما قاله جيرار جينيت بشأن تبيان الحدود الفاصلة بين الوصف والسرد، إذ قال: “السرد والوصف عمليتان متماثلتان، لكنَّ موضوعهما مختلف؛ فالسرد يعيد التتابع الزمني للحوادث، بينما الوصف يمثل موضوعات متزامنة ومتجاورة في المكان، وربما انصرف الوصف إلى الشخصيَّة وأبعادها الظاهرة ومشاعرها الباطنة فضلًا عن المكان ومفرداته”(2)، وبالعودة للحديث عن وظيفة الوصف لا بد من البحث في بعديها الزمني واللغوي؛ ففي البعد الزمني يقوم الوصف بوظيفة إبطاء السرد أو تعطيله كليًا، فالزمن في هذه الحالة يتباطأ أو يقف ويكون في درجة الصفر، وهنا يحاول المبدع فسح المجال أمام تدفق المعلومات التي تبني خطاب النصّ، ولما ننظر للوصف كتقنيَّة زمنيَّة فإنه يؤدي وظيفة فنيَّة تتمثل في تقليص زمن القص وتمديد زمن الخطاب “إنَّ الوصف كتقنيَّة زمنيَّة يمكن عدّه ملفوظا روائيا مهمته تقليص زمن القص مقابل تمديد زمن الخطاب عبر المكان؛ أي عبر النص”(3)، وفي الوصف المرتبط بالزمن نجد نوعين منه: وصف خارج عن زمن النص؛ وهو وصف يلجأ إليه المبدع ليلتقط أنفاسه الإبداعيَّة وليكسر روتين الحكي منتقلًا بالقارئ خارج حدود أحداث النص الأصلي وهو ما جاء في صفحة(101) “فهو يحشو ذاكرته بتفاصيل جديدة يومًا بعد آخر، بينما يبقى ماضيه ذكريات بعيدة، عليه أنْ يتخلص منها بطريقة ما، وهي ذكريات مؤلمة كلها. حينئذ تمثلت لعينيه السواتر الترابيَّة القاتلة، ووجوه رفاقه المقاتلين وهي تنضح رعبًا وخوفًا، والطبيعة المتوحشة للأرض حين تتحوّل إلى ساحة حرب. تمثلت له نباتات الحلفاء مخالب تتوق إلى تمزيقه، والطرفاء حرابًا جاهزة للنفاذ في لحمه، والنخيل فخاخًا للقناصين، وفقدت جمال عذوقها، وألوان سعفها المندغم بلون السماء الزرقاء”.
والنوع الثاني هو الوصف المرتبط بلحظة سرديَّة استوقفت المبدع ثم سرعان ما يعود بعدها للنصّ الأصلي، والوصف في رواية (نشيدنا الحزين) غالبًا ما يكون فيه هذا النوع الوصفي على لسان شخصيَّة من شخصيات الروي، ومنه ما جاء على لسان نائل أحد شخصيات الرواية في صفحة (200) عندما كان يُدلي برأيه في مسرحيَّة كلكامش لعلي الشمري الذي كان أحد شخوص الرواية أيضًا “كيف استحضر المخرج ذلك الطاغية جلجامش ليجسِّده في أرض الجليد؟ ألم يكن المخرج نفّاجًا مع نفسه؟ من خلال حديثه يمكن لمن يسمعه الجزم بأنه ينفخ الأمور لتأخذ حجمًا أكثر مما تستحق. المخرج لا يختلف بشيء عن جلجامش، ذلك الحاكم المستبد الذي لم يترك فتاةً لحبيبها، سافر لأقصى الدنيا لكي يهرب من قانون سماوي قدري يسري على الجميع، حالمًا بالوصول إلى عشبة الخلود. أي عنجهيَّة تلك؟ إنسان مكتوب عليه الموت كحال البشريَّة كلها، لكنه بلحظة تجبر، وطغيان عقلي، وتضخم للذات، يتحدى القانون الأزلي ويطمح للبقاء مخلدًا على عرشه. هل يختلف كثيرًا عن جلادنا، حاكمنا، دكتاتورنا الذي أوصلنا إلى آخر بقعة في عنق الأرض؟ هواجس نائل السكرانة مثله لا تريد الوقوف عند المخرج علي ومسرحيَّة جلجامش فقط، بل راحت الأسئلة تتراقص في داخله مثل تراقص النساء على خشبة المكان”.
أما البعد اللغوي فيمنح الوصف الوظائف التالية: وظيفة زخرفيَّة تزيينيَّة وهي وظيفة موروثة عن البلاغة القديمة، والتي ترى في الوصف مجرد صور أسلوبيَّة تحقق الدور الجمالي الفني للنص وتروم الاستراحة السرديَّة، وهذا الأمر وجدناه في الرواية شاخصًا لكنه كان بعيدًا عن تكلف اللفظ وتعقيد السياق، فقد أخذ جمالياته التزيينيَّة من عفويته السرديَّة وتلقائيَّة الحكي المبثوثة في النص وهذا ساعد على دعم الروي بمناقشة الأفكار المختلفة للمغتربين وطرح كيفيات حيواتهم وتوظيف أواصر الترابط مع شخوص المجتمع الجديد ومسوغات رفض بعضهم لتقبل الغريب الذي يختلف ببيئته وطريقة لبسه ومعتقده، فالرواية فيها شخصيات كثيرة وأحداث متداخلة لها حضورها البارز للراوي كلي العلم الذي يدير دفة الحكي بعد أنْ يقلد شخوصه قيادة بث أوجاعهم ورسم خريطة توهانهم في البلاد التي لم يتخلصوا فيها أبدًا من الشعور بالاغتراب وآلامه.
والوظيفة الثانية للبعد اللغوي هي رمزيَّة تفسيريَّة وهي التي تشترط أنْ يكون الوصف عنصرًا أساسيًا في العرض وأنْ يخدم بصورة مباشرة المقطع النصي الموصوف. واستثمر ذلك كثيرًا في الرواية من أجل خلق جو مناسب لملء فراغات قصص تسبَّبت بترك الشخوص أوطانهم أو بث معاناة تعايشهم الجديد الذي سيق لهم وهو محمل بقصص مغايرة لا تخلو من أحزان وشعور بخذلان الحياة لهم وتلك الوظيفة الرمزيَّة غالبًا ما تصف أجواء المدن والشوارع مستثمرة شعورًا خفيًا يبعث بترميزاته نحو مؤشرات الحنين للوطن الأم، ومن ذلك ما جاء في صفحة (147) من الرواية “طقس شتوي يلف المدينة، ضباب ونثيث من المطر وبيوت وعمارات تتلاشى نهاياتها في غيوم داكنة تتحرك في الاتجاهات كلها، وبدا البحر مندغمًا مع تلك الغيوم، واللون الرصاصي طاغ على الآفاق. على الرصيف شباب نزق يرتدون حللًا من الجلد الأسود تغطيهم غيوم من الدخان تتصاعد من سجائرهم، وفتيات حليقات الرؤوس، ملوّنات الأجفان والشفاه، مقبلات على الحياة بسعادة. عجائز يضعون سماعات لاقطة للذبذبات الصوتيَّة، معاقون يمتطون كراسي سيارة من دون صوت، وكلاب عملاقة وأخرى مقزمة تدبّ دبيب ديدان ربيعيَّة. رؤوس مغطاة بقبعات فرو الثعالب أو عارية يلسعها الصقيع، صقيع كان يشيع في أعطافه الحنين إلى لهيب الصحاري، وأشعة الشمس. ووقر الأصياف الهاب من البساتين. قبلة قادمة من الرصيف تقذفها أم إلى ابنتها الواقفة في زاوية ما على السطح. تلويحة على شكل جناح يمامة يقذفها شاب إلى حبيبته. همسات وحنين ووداعات، يدور ذلك كله حول جسده. من غير أنْ يداعب روحه المنشدّة إلى عالم آخر يراه أمامه واضحًا وضوح الرافعات في الميناء والمودعين المرحين وشوارع المدينة الضائعة خلفه وسط الضباب”.
الهوامش:
1ـ عبد الملك مرتاض: في نظريَّة الرواية- بحث في تقنيات السرد، ص251.
2ـ صباح بنت علي بن عبد رب الحسن آل قاسم: أساليب الوصف والتصوير في ديوان الناس في بلادي للشاعر صلاح عبد الصبور، رسالة ماجستير، قسم اللغة العربية، كليَّة الآداب، جامعة الملك سعود، المملكة العربيَّة السعوديَّة 1430هـ، ص: 45.
3ـ حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت لبنان، 1ط ،1990 ص1 .