الثورة بالكولاج.. من بيكاسو إلى البوب آرت

ثقافة 2023/07/26
...

 عزالدين بوركة

قبل سنة من عرض مارسيل دوشان منجزه الجاهز - الصنع: "النافورة" [المبولة] (1913). التي سوف يُعاود عرضها بعد 4 سنوات، بتوقيع مستعار دائماً. عرض بابلو بيكاسو لوحته الشهيرة، التي شكلت لحظة انتقال جوهري في كنه الفن وتاريخه، حديثاً ومعاصراً. يتعلق الأمر بعمله "طبيعة صامتة بكرسي قصب" (1912).
أدرج بيكاسو بشكل وحشي في صلب قماشته قطعة قصبيَّة من كرسي. مما شكل قفزة نوعية في اشتغاله الفني وفي تاريخ الفن الحديث، وحتى المعاصر، وفي كل المنجزات والتيارات التي ظهرت من بعد هذا العمل. إذ لأول مرة يتم دمج شيء اعتيادي بسيط في عمق اللوحة، من دون حاجة لإعادة تمثيله وتصويره صباغيا. لقد تخلّى الفن في جزء معين من المنجز، على يد الفنان.. وهو ما سيتطور مع دوشان الذي ألغى - كليا- كل أنظمة التمثيل، من تصوير (صباغي، ونحت). ومن ثم، أزاح تدخل يد الفنان، معتمدا كليا على التصوّر (لا التصوير) والمفهوم.. (يفتح اليوم الفن الرقمي والذكاء الاصطناع آفاقا مفاهيميَّة أرحب، تحرر بالمطلق يد الفنان).
لقد سبق الدادائيون بيكاسو في الاستعانة بالكولاج، مثلما قد سبق الفوتوغرافيون دوشان في ما يتعلق بإلغاء يد الفنان عن صنع العمل. غير أنَّه قد ظل هؤلاء أوفياء للتمثيل. إذ تعمل الصورة الفوتوغرافية مثلما تعمل الصباغية، مغيرة التقنية فحسب: اليدوي بالآلي.. في قصدية التمثيل عينها.
جاء فن الجاهز - الصنع ضد كل طرق التمثيل.. لا يعمد الفنان عبره، لأي تصويريَّة مهما كانت. بينما حافظت الفوتوغرافيا على القيمة القدسيَّة نوعاً، المتجسّدة في التمثيل، ومعلناً عن حالة التدنيس التي يقول بها والتر بنيامين. في حين أن ما يقوم به المنجز الجاهز يعد في مطلقه قابعاً في قيمة العرض فحسب.. إعلاءً للمدنّس كليَّاً.
بينما كان كولاج بيكاسو مغايراً لكولاج الدادائيين (المونتاج بالتحديد). بحيث أن الأول يعد اِلصاقاً ودمجاً من أجل بناء العمق في البعد الثنائي، واستدراج غير المعتاد في المساحة التصويريَّة مما يخلق صدمات وقابليات التأويل، بينما يعد الثاني تجميعاً كليَّاً -لا صباغة فيه- بنيّة بناء فوضى، تعكس حالة العالم، أي أنه تمثيل يستقصد جمع الأشلاء والشظايا، كأنه تجسيد لمآل العالم إبّان الحرب العالمية الأولى وما تلاها، وتعبير صريح على حاجة الدمار الإنساني (الجثث المتشظية) والعالمي (المعمار المخرّب والمدمّر).. إنَّه بيان فني ضد مصير الإنسانيَّة المجهول الذي سيتولد عنه حالة من السرياليَّة القصوى.. وإنَّه إعلان لحالة الموت المتفشية: موت الإنسان، وموت الفن.. عكس كولاج بيكاسو الذي يعد بعثا لشيء ميت ومنسي في دوامة الاعتيادي واليومي؛ أو بتعبير آخر، لقد جعله مرئياً أكثر مما كان عليه.
ابتغى بيكاسو خلق العمق من الأشياء المعتاد النظر إليها.. ومن ثم منح العمل قابلية اللمس.. نوع من البروز. يمنح اللوحة بدنا حيا ملموسا. مما يُزيح عن التصوير الصباغي حدوده لصالح إثراءٍ عماده تعقيد تكميلي.. فقطعة القصب (الكرسي) هذه، مجرد إضافة تكميليَّة، كان ليستغني عنها برسمها (تمثيلها). لكنه أراد أن يجعل الطبيعة الصامتة ناطقة وحيَّة. إنّها إزاحة مقصودة للممثل صوب المعيش ونقل المعيش إلى قلب الممثل.
لقد استطاع بهذا بيكاسو أن يلغي عن العمل متلازمة عزله عن محيطه، حيث لم يعد تمثيلا، بل عنصر من عناصر البيئة (ولو جزئيا). وهو ما سيتطور مع دوشان، ومن بعدهما مع فن الأرض، الذي نتج عنه نزعتان فنيتان أساسيتان: النحت في الطبيعة والتصوير الفوتوغرافي..
بلغ فن الكولاج من بعد لوحة بيكاسو تلك، ذروته مع ماكس إرنست وهنري ماتيس، ومن ثم دخل على الفور عوالم الرواية وصناعة الأفلام، قبل أن يجد لنفسه مسلكاً معاصراً خالصاً مع البوب آرت وفن التجميع مع روبرت روشنبورغ. وقد عبّر إرنست مختصراً بقوة هذا الفن في كونه "التقاء واقعين متباعدين على سطح غريب عنهما". وهو ما يميّز الكولاج عن المونتاج، بعدِّ الأول جمعاً للمتناقضات، بينما الثاني تركيباً ذا قصديَّة واضحة وإلصاقاً لأغراض مرتبة من أجل قضية معينة.
بينما يستخدم إرنست الصور والنقوش والخلفيات المقتطفة والملصقة بحريّة في أعماله الكولاجيّة من أجل إثارة تقابلات غير متوقعة. عبر انتهاك حرمة المبتذل، وسلخه من الحياة اليوميّة ووضعه أزاء التغييرات البصريّة الذكيّة والعنيفة. أبدع بالمقابل، ماتيس موتيفات "مجردة" متكررة ومجترّة تملأ الفضاء، لتشكل غابة فسيفسائيّة أو نافذة تطل على حديقة شرقية غارقة في تعددية الألوان الزاهية. وأن يشكل منها أوراقا وقصاصات تشبه أوراق الأشجار المتساقطة في الخريف، لكنها محافظة على بريقها وشبابها وتجريديتها في صيغتها المفردة. أو مثلما يخبرنا لويس أراغون في كتابه الشهير عن فن "الكولاجات": "كانت طبيعة كولاج ماتيس على وجه التحديد عبارة عن تراكيب من الأوراق الملونة، وليس تمثيلات للأشياء، وبدلاً من ذلك، على سبيل المثال، وكما هو الحال مع ماكس إرنست، إنّها كولاجات لأغراض ممثّلة، تجميعات للأشكال. وقد تشبّث ماتيس بوصف كولاجاته على أنها وقبل كل شيء "قصاصات".
ولم يكن الكولاج بالنسبة لروشنبورغ، في البداية، غاية في ذاته، بل طريقة بين الطرق المتعددة التي انتهجها ضمن عملية تجميعيَّة، ترتب عنها أعمال انتمت لما اصطلح عليه بـ "تصوير صباغي- كولاج"، والتي انبثقت مما سمّاه سابقا بـ "التجميع التصويري". حاول هذا الفنان عبر تجميعاته المدهشة، أن يبتكر ما سمّاه بـ "ميثولوجيا اليومي"، وذلك عبر مونوغرامات ثلاثيّة الأبعاد، ناتجة عن تجميع لصورة للحياة العصريّة العادية من خلال التركيب والالصاق للأشياء اليوميّة، والآتية من عوالم الرأسمال والاقتصاد والاستهلاك المعاصر.
من هذه النقطة الأخيرة بالتحديد، برز فن البوب بدوره، في ارتباط اِستتيقي بمفهوم الشعبي وسريع الزوال والمعرض للنسيان، والمثير والمدهش والقابل للتكرار. وذلك تحت تأثير وسائل الإعلام والتكنولوجيا الجديدة. في إطار استحواذ النزعة الأمريكية على مجمل التصورات المعاصرة في فترة ما بعد الحرب. وقد تفاعل فنانو البوب مع التغيير المحدث في الإدراك البصري الذي تسببه وسائل الإعلام. لهذا عملوا على استدراج واستدماج وجمع التصاوير والملصقات في قالب نقدي، وتدويرها عبر رؤية تحاول إعادة النظر لمآلات الحاضر. وقد طور الفنانون الأمريكيون بدورهم، تجربة الكولاج الإنجليزية السباقة، في اتصالها بمجتمع الميديا والوسائط الإعلامية الجديدة..
ستظل مهمة يد الفنان مع فن الكولاج، في ما بعد ما أحدثه بيكاسو، مقتصرة على الرتوشات والإضافات الدقيقة، أو مجرد وسيلة لترتيب القصاصات، أو لتجميع المتناقضات، وليست وسيلة فضلى للتمثيل الكلي. إذ منذ البوب آرت بدأ الفنان يقْلِب ويشوه العلاقة بين الأشياء وشكلها في عالم الإعلام والإعلانات والمجتمع الاستهلاكي والتقني المعاصر. وإن كانت التقنية الأساسية المستخدمة تنتمي للنزعة التصويرية، لكن الفنانين يشوهونها عبر تلك التغيرات الجوهرية التي يضيفونها إليها. تتمثل بعضها في سلسلة الرسومات (والتتميمات) السيريغرافية البورتريهاتية أو التصويرية للأشياء المعتادة، مثلما في تجربة آندي واروول ومارسيال رايس. لم ينسلخ فنانو هذه النزعة عن الواقع، ولم يتبعوا أي تجريدية. لكنهم لم يعملوا على التدخل المطلق في المنجز من الناحية التمثيلية (عمل واررول - وغيره - على طبع بسوتيرات وإضافة رتوشات سيريغرافية أو كولاجات طفيفة عليها).. ليظل [المنجز] ذريعة تأويلية -متشظية-
للعالم المعاصر.