مؤيد الاعاجيبي
كوندورسيه : فيلسوف ورياضي موسوعي فرنسي، وُلد في عام 1743 وتوفي في عام 1794. كان أحد أبرز المشاركين في الثورة الفرنسية التي وقعت في عام 1789، وكان من المؤيدين المتحمسين لأفكار فولتير. كان يؤمن بأهمية العقل ودور الإنسان في تحقيق التقدم. يُعَد كتابه "مسودة لوحة تاريخية لتقدم العقل الإنساني". من أهم المؤلفات فهو يقدّم فيه رؤيته لمستقبل مدينة مثالية بعد الثورة الفرنسية، حيث تُزال الطغاة والقساوسة، ويتبع المجتمع سلوكاً عقلانياً متمتعاً بحرية العقل. بفضل هذه التطورات، قُدِّمت نظرة تفاؤلية لمستقبل الإنسانية، حيث يتطلع إلى عالمٍ أفضل وأكثر تقدماً.
في كتابه هذا يقدم كوندورسيه نظريته حول مراحل التاريخ. مما جعله يتربع على قائمة الفلاسفة التاريخيين الكبار. تميز كتابه بتفاؤله وتأكيده على دور الإنسان في تشكيل مسار التاريخ. استخدم كوندورسيه لوحة تاريخية تمثل ملاحظاته المتتابعة للمجتمعات الإنسانية عبر العصور المختلفة. وكان الهدف من هذا التحليل هو رصد ترتيب التغيرات وتوضيح التأثير الذي أحدثته كل فترة زمنية في التطور والتقدم نحو الحقيقة والسعادة. عن طريق دراسة التحولات التي أجراها الإنسان في محاولاته المستمرة للتجديد، يوضح الكتاب المسار الذي سلكه الإنسان والخطوات التي قطعها لتحقيق التقدم. لأن " هذه الملاحظات حول الماضي والحاضر توجهنا نحو الوسائل المتوقعة لتحقيق أشكال جديدة من التقدم، وتساعدنا على تحقيق هذه الأهداف وفقًا لمتطلبات الطبيعة".
يضع كوندورسيه طريقتين لدراسة الملكات الإنسانية " الأولى بالملاحظة عن الظواهر العامة وعن قوانين نمو هذه الملكات. أما الثانية فتهتم بدراسة العقل البشري من خلال النتائج التي توصل إليها بنشاطه، وتحديد المحصلات المادية والمعنوية التي أضافها كل جيل إلى الأجيال التي سبقته" بمعنى أننا في هذه الحالة لاتهمنا دراسة مكان التفكير في صورته المجردة بقدر ما يهمنا معرفة مراحل تطور العقل.
في البداية، يمثل اتحاد الأسر في قبائل لزوم الصيد في المرحلة الأولى من التطور الحضاري. يُشير كوندورسيه إلى أن قبل هذه المرحلة، لا توجد ملاحظات مباشرة تفصح لنا عن الحالة التي سبقت هذا التطور. ولكن بواسطة فحص شامل للفكر والأخلاق والتكوين المادي، يمكن للمرء أن يستنتج كيف تم التقدم نحو هذه الدرجة الأولى من الحضارة. إنَّ هذه المرحلة تُعَدُّ أحد أوائل حالات التطور الإنساني، وقد تم التوصل إليها عن طريق اتحاد أفراد الأسر في قبائل تعتمد على الصيد لتأمين احتياجاتها. يقول كوندورسيه" إنَّ الحضارة التي أمكن ملاحظتها عند النوع البشري، هي حالة مجتمع يتكون من عدد قليل من الأفراد يعيشون على القنص وصيد الأسماك، يمارسون فناً بدائياً في صنع بعض الأسلحة البسيطة والأدوات المنزلية، أو في بناء المساكن أو حفر الكهوف. كان لكل من هؤلاء الأقوام لغة يتفاهمون بها، وعدد قليل من الأفكار الخلقية التي يستخلصون منها قواعد عامة للسلوك، وكانوا يعيشون في نظام عائلي ويخضعون حياتهم لأعراف عامة تحل لديهم محل القانون، بل إن منهم من كان بشكل بدائي من أشكال الحكومة
والنظام".
أما في التقدّم التاريخي فتعتبر نظرية كوندورسيه مفهوماً شاملاً يتشابه مع نظريات أخرى في فلسفة التاريخ، مثل نظرية هيجل ونظرية كارل ماركس. يُرَى أن كوندورسيه يقترب من دراسة التاريخ من خلال تتبع تعاقب مراحل العصور وتحليل المساهمات التي قدمها كل عصر في تشكيل تقدم الحياة الإنسانية عبر مسار التاريخ. وفي ملاحظتنا الختامية، نوصل إلى استنتاج أن نظرية كوندورسيه في التقدم التاريخي تقدم نظرة شاملة ومتكاملة لعملية التطور الإنساني. تقترب هذه النظرية من الفلسفة التاريخية التي تحاول فهم كيف تشكلت الحضارات والمجتمعات عبر الزمن وكيف أثرت في تقدم الإنسانية. وبذلك تسهم نظرية كوندورسيه في إثراء فهمنا للتاريخ والتطور الإنساني بشكل عام . بمعنى" أنها صورة تاريخية لتقدم الروح البشرية، التي حاول رسمها وليس تاريخ الحكومات والقوانين والأعراف والعادات والآراء بين مختلف الشعوب الذين احتلوا العالم". هنا يُقدِّم كوندورسيه رؤيته من خلال مفهوم التقدم، والذي يعتبره مفهوماً أساسياً ومحوريًا في تطور التاريخ. يعتقد أنَّ تاريخ الإنسان يتجه نحو آفاق التقدم. هذا الطرح يتقارب بشكل نسبي مع رؤية فولتير لكنه يختلف عنه في مسألة التطلع إلى فكرة مستقبلية تلوح في الأفق، مع الأمل في أن يسود العقل في كل جوانب نشاط الإنسان. تتمحور نقطتان رئيسيتان في رؤية كوندورسيه: أولاً، أنَّ التقدم يكمن في تقدم العقل البشري وقدرته على التطوير والتحسين. ثانياً، أنَّ الفلاسفة لهم دور مهم في التعبير عن روح العصر الذي يعيشون فيه وأنهم يجسدون التقدم والتحضر من خلال أفكارهم وإسهاماتهم. وبهذه الرؤية، يسعى كوندورسيه لتشجيع تقدم الإنسانية بواسطة استخدام العقل والفكر، ويؤكد على أهمية دور الفلاسفة في إثراء المعرفة وفهم التطورات التاريخية والثقافية لعصرهم. وقوله " إن التاريخ يتراوح بين الهدوء والحركة، ويسير دائماَ ولو بخطوات بطيئة نحو تقدم أعظم" يفيد هذا القول أن التقدم بالذات ضرورة، وأما التدهور أو النكوص فهو بالعرض، والتقدم يعبر عن قانون للتاريخ نفسه، حيث أن التدهور يعبر عن الإلغاء المؤقت لهذا القانون، ويأتي التقدم عن طريق ارتباط كل جيل من أجيال الإنسانية ارتباطاً وثيقاً بالأجيال التي سبقته والاعتماد عليها. تتجلى هذه الحتمية التاريخية في ضمان استمرار التقدم
الإنساني.