حقيقة ثورة 14 تموز 1958 وقائدها

آراء 2023/07/27
...







 عبدالله حميد العتابي


بعد 65 عاما من ثورة 14 تموز1958، وهي مدة زمنية ليست بالقصيرة، لم يحظ هذا الحدث البالغ الأهمية في تاريخ العراق والشرق الأوسط، بتقويم علمي رصين يحظى بإجماع النخب السياسية والفكرية العراقية، ويخرجه من حقل التجاذبات العقائدية والمزاجية والاقصائية. فمعظم الكتابات التي تناولته من زواياه المختلفة، تحكمت فيها مزاجات متباينة، وخضعت لرؤى أيديولوجية متفاوتة، غلب عليها منحى الانبهار والاعجاب من جانب، ومنحى التسقيط والتشويه من جانب آخر، الأمر الذي أوقع كلا التقويمين، الاعجابي والتسقيطي، في أخطاء جسيمة، وصلت إلى حد التخوين في أحيان كثيرة.

فقد تعامل الخطاب الانبهاري مع ثورة تموز بوصفها، واحدة من أعظم الثورات في تاريخ العراق المعاصر، مرتكزا على عمق التغييرات التي نجمت عنه على مختلف الصعد المحلية والإقليمية والعالمية، وتعامل مع عبد الكريم قاسم، قائد تلك الثورة وزعيمها الاول، بوصفه الشخصية الأكثر أهمية في تاريخ العراق المعاصر.

وإن خطيئة الزعيم الراحل عبد الكريم، اخفاقه في صنع وايجاد آلية للانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، ويبدو أن ذلك الاخفاق وضع بذور الفناء في جسد ثورة تموز (الخالدة) وزعيمها (الاوحد). أما الخطاب التسقيطي، فتعامل مع ما جرى في العراق صباح يوم الرابع عشر من تموز كانقلاب عسكري لم يجن العراق من ورائه سوى مصائب متتالية، وصلت ذروتها بانقلاب 8 شباط 1963 الدموي وانقلاب 17 تموز 1968المشؤوم، وما آل اليه وضع العراق لاحقاً من استبداد ودكتاتورية وطغيان ومقابر جماعية، كما تعامل مع عبد الكريم بوصفه ضابطا (مغامراً) طمح للاستئثار بالسلطة بقوة السلاح ونجح في مغامرته، ومن ثم لا يختلف في كثير أو قليل عن غيره من العسكريين، الذين تعاقبوا على حكم العراق منذ ذلك التاريخ.

وفي ظني أن كلا التقويمين افتقر للنزاهة، وبالغ في ابراز النجاحات مثلما بالغ في ابراز الاخفاقات، ومن ثم ارتكب أخطاء جسيمة آلت إلى نوعين من خلط الأوراق، الأول: خلط بين المشروع الوطني للثورة ونظامها السياسي. ونقصد بالمشروع الوطني للثورة ذلك المشروع، الذي جسدته معارك عبد الكريم في الداخل، كإلغاء قانون دعاوى العشائر وإقرار قانون الإصلاح الزراعي وتوزيع الاراضي على الفقراء في مدينتي الثورة والشعلة، وفي باقي المحافظات وقانون الاحوال الشخصية وقانون رقم 80 والعدالة الاجتماعية بوجوهها المختلفة، وكذلك معاركه مع الخارج، كالخروج من ميثاق بغداد ورفض الأحلاف العسكرية وتبني سياسة عدم الانحياز ودعم حركات التحرر العربية في فلسطين والجزائر. ونقصد بالنظام السياسي لثورة تموز ذلك النظام، الذي ترتب عليه إلغاء الحياة البرلمانية والتعددية السياسية.

الثاني: خلط بين الثورة التي قادها عبد الكريم والانقلاب المضاد الذي قاده حزب البعث في 8شباط 1963، وانقلاب 17 تموز 1968. ويبدو أن البعض يتعامل مع كل من يصل إلى السلطة مرتديا بدلة عسكرية، أو حتى سبق له امتهان العمل العسكري في أي مرحلة من مراحل حياته، بوصفه ذات عقلية انقلابية وديكتاتورية حتما، وليس ثوريا أو حتى سياسيا، وينتمي من ثم إلى «نخبة العسكرتارية». وهنا يسهل النظر إلى عبد الكريم قاسم بوصفه مجرد حاكم عسكري مثله مثل عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف واحمد حسن البكر. وهذا شكل من اشكال العبث الفكري الذي يحتاج إلى إعادة نظر شاملة.

لتقويم ثورة تموز 1958 بشكل علمي، تبدو الحاجة لتبني رؤية قادرة على وضع الحدود الفاصلة بين الرأي من ناحية، والمعطيات أو الحقائق المجردة من ناحية أخرى، في ضوء مجموعة من الملاحظات اجتهد من جانبي في طرحها على النحو التالي:

الملاحظة الأولى: تتعلق بالمفاتيح اللازمة لفهم أعمق لشخصية عبدالكريم قاسم، فعلى الرغم من قيادته لواحدة من اهم الثورات في مقاييس العالم الثالث، فإنه بقيَّ مؤمنا بتقاليد وأخلاق وسلوكية المؤسسة العسكرية التي ينتمي اليها، تلك المؤسسة القائمة على مركزية القرار، والتي اعتادت أن تأمر منتسبيها دون نقاش، أو اعتراض في بلد تمتلك فيه هذه المؤسسة دورا مهما في الحياة السياسية بصورة مباشرة أو غير مباشرة يصعب تجاوزه.. أن قاسم استولت عليه فكرة الزعيم الأوحد، لكن ببدلة عسكرية. رافضا ان يكون حاكما عسكريا بمعايير السياسة والحكم. ولأنه لا توجد شخصية إنسانية «كاملة الأوصاف» علينا أن نبحث أيضا إلى جانب هذه المكونات «إيجابية الطابع» في شخصيته، التي ينبغي أن نضيف إليها التواضع والبساطة والاستقامة الخلقية والنزاهة الشخصية وطهارة اليد، وعلى الجانب الآخر، علينا أن نلقي الضوء على المكونات الأخرى سلبية الطابع، أهمها في تقديري: إحساس نرجسي بالذات، واعتزاز مفرط بالشخصية، والتردد وعدم الحسم.

الملاحظة الثانية: تتعلق بالمفاتيح اللازمة لفهم أعمق لطبيعة المشروع الوطني لثورة تموز. فحين يتحرك تنظيم سري يضم مجموعة من الضباط، لقلب نظام الحكم والاستيلاء على السلطة، نصبح بالضرورة أمام انقلاب عسكري ذي طابع وطني ، لذا ينبغي ألا تساورنا أي شكوك في أن ما جرى صباح 14 تموز، كان من حيث الشكل على الأقل، انقلابا عسكريا لا شبهة فيه. غير أن التدقيق الأكثر تعمقا لمكونات هذا التنظيم يؤكد، أن معظم أعضائه ارتبطوا تنظيميا أو فكريا، في مرحلة أو أخرى من حياتهم، بهذا الحزب أو ذاك من احزاب الحركة الوطنية العراقية، المنضوية تحت جبهة الاتحاد الوطني، وأن الدوافع لتحركهم لم تكن شخصية، طمعا في سلطة أو ثروة، وإنما كانت عامة وتتواءم في مجملها مع تطلعات الحركة الوطنية، الأمر الذي يفسر مسارعة الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة على الساحة العراقية، بما فيها الحزب الشيوعي وحزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب البعث لتأييد «الانقلاب» بعد نجاحه في الاستيلاء على الحكم، ولم يتحول في الوعي الجمعي العراقي إلى «ثورة»، إلا من خلال المعارك الداخلية والخارجية التي خاضها، والتي أدت إلى تغييرات عميقة على بنية المجتمع العراقي.

الملاحظة الثالثة: تتعلق بالمفاتيح اللازمة لفهم أعمق لطبيعة النظام السياسي لثورة 14 تموز. فبعد الغاء التجربة البرلمانية الملكية، كان من الطبيعي أن تتغلغل العناصر الوصولية في قلب النظام، وأن تظهر «مراكز قوى» تتنافس أو تتصارع بشان أمور ذاتية أو موضوعية، لذا يمكن القول بدون تردد إن الإخفاق في العثور على آلية للانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، كان السبب الاساس في سقوط الثورة، أو بمعنى أدق، أن النظام السياسي لثورة تموز تولى بنفسه مهمة إلحاق الهزيمة بمشروعها الوطني. أخلص مما تقدم إلى نتائج ثلاث، أجملها على النحو الاتي:

النتيجة الأولى: تشير إلى ارتباط المشروع الوطني لثورة 14 تموز عضويا بشخص عبد الكريم، الذي اخفق في إقامة نظام سياسي يملك من القوة والفاعلية ما يكفي لتمكينه من مواصلة المسيرة، وهو ما يفسر حقيقة أن ثورة 14 تموز وصلت إلى نهايتها الفعلية بمقتل عبد الكريم قاسم في 9 شباط 1963.

النتيجة الثانية: تشير إلى أن النظام السياسي لثورة 14 تموز هو الفاعل الحقيقي للثورة المضادة، التي أجهزت على المشروع الوطني لثورة 14 تموز. فالنظام غير الديمقراطي لثورة 14 تموز، هو الذي مهد الطريق لثورة مضادة قادها الشخص الثاني في تنظيم الضباط الاحرار عبد السلام عارف

 بنفسه.

النتيجة الثالثة: تشير إلى أن المشروع الوطني لثورة 14 تموز، كان امتدادا لمشروع الحركة الوطنية العراقية في العهد الملكي، على اختلاف توجهاتها وفصائلها. لذا ينبغي على أي حوار يستهدف إنقاذ المستقبل في العراق أن يدور حول طبيعة النظام السياسي الأقدر على تحقيق أهداف المشروع الوطني، وهي أهداف لا يجوز الاختلاف حولها أو عليها. وما لم تنجح النخبة السياسية العراقية بمعناها الواسع، والتي تشمل الشريحتين الحاكمة والمعارضة معا، في التأسيس لنظام ديمقراطي، يضمن مشاركة الجميع ولا يستبعد أحدا، والا، فسوف نظل ندور في الحلقة المفرغة نفسها التي لا يعرف إلا الله متى يتمكن العراق من الخروج منها.