محرر سينما
حينما اتصلت المنتجة والممثلة المعروفة ماجدة الصباحي بالمخرج الشاب وقتها يوسف شاهين هاتفياً في الثالثة صباحاً لتقول له : "يا يوسف تجيني حالا"، وقتها كانت الجزائر تغلي وتقدم التضحيات لانهاء استعمار غاشم، قدمت له سيناريو فيلم كتبه نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي وعلي الزرقاني، مقتبس من قصة ليوسف السباعي عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، التي تحملت شتى أنواع التعذيب، ولم تعترف على رفاقها، فحكموا عليها بالإعدام
قصة مثيرة وملهمة كان من المفروض أن يخرجها عز الدين ذو الفقار، لكنه اختلف مع ماجدة، التي لم تكن سهلة على أية حال، وافق شاهين بلا مقدمات، على الرغم من كونه يجهل الجزائر، ولا يعرف الكثير عنها، ولأن الفيلم يسرد الأحداث عاطفياً، "العرب هم الطيبون والفرنسيون الأشرار" مثلما قال يوسف شاهين في أكثر من مرة، الذي تميز بأسلوب مختلف عمن سبقوه من المخرجين، لكنه أخرج هذا الفيلم بالطريقة المصرية التقليدية، ربما لأن الفيلم تعبوي، أو لأن ماجدة كانت صارمة في تقييد شاهين بتنفيذ رؤيتها، ما أثار جدلاً وخلافاً كاد أن يطيح بالفيلم، لولا تدخل رشدي أباظة الذي كان يمثل دور القائد الفرنسي "بيجار"، أكمل صاحب "الأرض" الفيلم ونجح نجاحاً كبيراً، وكان الجمهور يستقبله بالتصفيق والدموع، وحينما عرض في أفغانستان خرج الجمهور من الصالة غاضباً وحرق السفارة الفرنسية، وأسهم الفيلم مع الكثير من المثقفين الأحرار، منهم : جون بول سارتر، وسيمون دي بوفوار، والفيلسوف فرانسيس جونسون، و البير كامو وغيرهم كثير، بالضغط على الرأي العام، فتم إنقاذها من الموت، هذه المناضلة تحولت إلى امثولة أيقونية، حتى أنها زارت العراق أيام عبد الكريم قاسم، الذي أطلعها على منجزات ثورة تموز واهتمامها بالفقراء، وأسمى منطقة جميلة باسمها، الفيلم مثل فيه احمد مظهر وماجدة الصباحي (منتجة الفيلم)، وزهرة العلا، وصلاح ذو الفقار، ورشدي اباظة، وفاخر فاخر، وأدار تصويره القدير عبد العزيز فهمي.
بدا المشهد التمهيدي تقليدياً في أسلوبه السردي، فثمة الراوي المنحاز، الذي يحكي عن محنة الجزائريين، وكيف يستغل الفرنسيون أهل البلد ويصادرون أرضهم، ويقص ويعلق على الأحداث في ما نشاهدها أمامنا، لنقترب من أسرة بوحيرد الريفية، لتستلم جميلة(ماجدة) دور الراوي العارف، فتقص علينا أحداث طفولتها وانتقالها إلى العاصمة، لنتفاجأ بأن البيوت الكبيرة والباذخة، التي يسكنها " الفرنساوية"، بينما الفقراء يعيشون على الهامش، أدخلتنا هذه المشاهد إلى حكاية جميلة وعمها المناضل مصطفى(فاخر فاخر)، الذي ينتمي لجبهة التحرير، وعلى الرغم من سذاجة التعليق وإزاحته لبلاغة الصورة، لكن انحياز صناع الفيلم العاطفي إلى ثورة الجزائر التي كانت شاغلة الدنيا في ذلك الزمان، جعل الفيلم ينحى منحىً تعبوياً وتقريرياً، وهذا واحد من أسباب الخلاف بين المخرج ومنتجته الحاذقة.
بتتابع سردي خطي بسيط نتعرف على حي القصبة الذي تسكنه الأسر البسيطة، وعلى طفولة جميلة، وشبابها، ودراستها، ووعيها المبكر في كنف عم متنور، هو مصطفى بوحيرد أحد مجاهدي جبهة التحرير، ثمة مشاهد تحيلنا إلى نقمة الجزائريين على الفرنسيين، واستعدادهم لمواجهتهم، فنتعرف على الفدائيين، وكذلك على الخونة، بعدها نتابع جميلة في الجامعة، لنكتشف انقسام الطلبة حسب انتمائهم الطبقي، فهنالك المتحالف مع المستعمرين الفرنسيين والمدافعين عنهم، ونتعرف على الشابات الجزائريات المنضمات تحت لواء جبهة التحرير وشجاعتهن، فثمة الطالبة أمينة (تهاني راشد) التي تنفذ عمليات ويلقى القبض عليها وحتى لا تعترف أو تنهار تبتلع "كبسولة سم"، وسط ذهول الطلبة، وجميلة التي تعجب من كل هذا الفداء، وتقرر أن تكون فدائية، فتكتشف أن عمها مصطفى (فاخر فاخر) فدائي هو الآخر، وخطيب صديقتها عزام (صلاح ذو الفقار) أيضا فدائي، بل حتى القاضي (حسين رياض) الذي يحابي الفرنسيين ويستقبلهم، تنضم جميلة إلى الفدائيين وتبلي بلاءً حسناً، وتغرم بالقائد يوسف ياسر (احمد مظهر) وتنجح مع رفيقاتها بزرع عبوات حيثما يتواجد الفرنسيون ما يجعل القائد الفرنسي بيجار(رشدي أباظة) يفقد صوابه، فيقتفي أثر الفدائيين وينكل بهم .
أهمية الفيلم أنه ركز على بطولة النساء الجزائريات على العكس من فيلم جيلو بونتيكورفو "معركة الجزائر"، إذ نرى مشاهد مشوقة ومرعبة لجسارة جميلة بوحيرد وأمينة وبو عزة وعشرات الفدائيات اللاتي تخلين عن الأهل والأصدقاء والأحبة، واقتفين أثر حرية الجزائر وإن كان الثمن حياتهن، من المشاهد التي لا تنسى في الفيلم مشهد تعاطف المجاهدين المسجونين مع محنة جميلة، إذ تنتقل الكاميرا بلقطات قريبة لهم وهم يرددون النشيد الوطني، بينما وجه جميلة محاط بهالة ويطوف حول تتابع اللقطات، وتصور الكاميرا بانورامياً أهالي الجزائر وهم يهتفون في واحد من المشاهد الملحمية، الذي ينتهي بلقطة كبيرة للعلم الجزائري وهو يرفرف معلناً عصر الحرية.