د. جبار خماط حسن
بدأت حياة الإنسان البدائيَّة طقساً فرجويَّاً، تشترك فيه عناصر الطبيعة، النار والتراب والماء والهواء، محاولة منه للاقتراب من أسرارها، والإكثار من هباتها، أو الابتعاد عن مخاطرها، الحركة والرقص والأناشيد احتفال جماعي أولي لانتاج خبرة فنيَّة أوليَّة، تلخص حياة الإنسان وتطورها بالعلم والفن والدين، ثالوث رافق الإنسان، ليجعل من حياته الماديَّة والروحيَّة منظمة ومستقرة وجميلة.
إنَّ فكرة الأصل بالطقوس قبل النصيَّة الأقرب إلى سببيَّة تطور المسرح، بمقولاته وحدوده الثلاثة: المكان والزمان والإنسان، تتصل لتكون مجالاً حيويَّاً، نسميه فن المسرح، تتغير جغرافيا الأداء، تبعاً للروح الجامعة للفعل الفرجوي، المتشكل من أداء الجسد والمويسقى، وايقاعات الصوت البشري، كلها شكلت لتكون معمار الفرجة المسرحيَّة.
إنَّ كتاب (فن الشعر) للفيلسوف أرسطو، قيد أو كبل حرية المسرح نحو اكتشاف مساحات جديدة، في أصوله الأدائيَّة - الفرجويَّة وطبيعة عملها، حين دخلت الحياة المسرحيّة، مضمار المسابقات النصيَّة، التي كانت تقام في اليونان القديمة، إذ تعمل بما هو جاهز، وتقيّد ما هو حر في التخييل لدى صانعي الفرجة، لأنَّ المسرحيين آنذاك أصبحوا ينطلقون من نص جاهز، يرشدهم الى العمل المسرحي، ويسدد خطاهم نحو الانجاز.
مسابقات لدى اليونان، اختصت باختيار الأفضل من كتاب النصوص، اسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس أو ارستوفانيس في الكوميديا، نصوص مدوّنة، تكون حاضرة تجسيداً على دكة المسرح، في يوم ومكان معلومين!، هذا التنظيم في الحياة المسرحية، أوجد نوعا من الجمود في البحث المسرحي وعلاقته بايقاع الحياة وتيارها الجارف، فما قاله هوسرل بعد ذلك قوّض مقولات أرسطو الدرامية، لأنَّ هوسرل اوجد مفهوم التعليق الحر للظاهرة، تتيح للمخيلة اللعب واكتشاف الجزر المجهولة في بحر الأداء بروحه الجماعيَّة وايقاعها الضابط للمخرجات المسرحية ذات النسق التفاعلي مع الجمهور.
في البدء كانت الفرجة، قبل النصيّة، كان الأداء نوعاً من السلوك الجماعي الحر، احتفالا لونيا وجسديا وصوتيا ايقاعيا، سمته الاساسية التشاركيَّة ما بين المؤدي والمتلقي في وحدة أدائيّة، تحقق الانسجام الشعوري والفكري لدى المشاركين والمؤدين على حدٍّ سواء.
الفرجة من الانفراج، عكس الكبت، وعكس مسيرة الاحداث وتأزمها، والانفراج في طقس الفرجة المسرحية، هو الكشف والتنوير والحل والراحة بعد التوتر والازمة في التلقي لما حدث ويحدث من توترات في الفعل المسرحي.
المسرحي (فيسفولد مايرخولد) في رؤيته للارتجال الاصيل الذي يمثل حدا أصيلا في بنية الفرجة المسرحية، بأنّه بديل عن النص المكتوب، البؤرة التي تجتمع في داخلها، منجزات جميع الشعوب والعصور، وروائع الثقافات الأصيلة.
في ذلك تكمن الخاصيّة المسرحيّة الأصيلة والتقليديّة الحقة، النابعة من العملية المسرحية، بما تنطوي عليه من ألعاب ورقصات وأفراح.
يُبين لنا خالد أمين الباحث في الفرجات المسرحية، أن الفرجة أشمل من الأداء، لانها قد تشمل الشعائر، والاحتفالات، والالعاب الرياضية، ومن ثم ارتبطت كلمة (فرجة) ما يمكن إحداث تأثير في النفس والآخرين وانكشاف الغم ومشاهدة ما يتسلى به.
أما (كلفورد كارثر) فيرى الفرجة «قصة يرويها الناس لأنفسهم حول أنفسهم.. وهنا مغادرة للتحديد الاسمي للمؤلف، فلا فرديَّة في الكتابة، بل صياغة جماعيَّة، لها القدرة على الاعتماد على الجمهور، بوصفه شريكا فاعلا، كونه يشكل ذاكرة مشتركة مع منتجي الفرجة، الفرجة المسرحية.إنَّ تداخل الثقافات أو ما يعرف بالمثاقفة المسرحية، دفعت (بيتر بروك) بعد شعيرة التشابيه في مدينة شيراز، في سبعينيات القرن الماضي، تفاعله مع مسرح يعرف الناس حكايته، ويعرفون مصائر الشخصيات، لكنّهم يتفاعلون على نحو لا نجده في مسرحنا الاوروبي!، هذا هو المسرح الذي نريد أو نسعى إليه!، إنها فرجة التماهي في المشاهدة، سمعا وبصرا، جعلت المؤدين والمتفرجين، في لحظة جامعة يبقى أثرها في النفس، ويتجدد سنويا في طقس مسرحي فاعل التأثير والمشاركة.
يذكر سمير سرحان في كتابه (دراسات في الأدب) أن أصل كلمة مسرح، تعني مكان الفرجة، والمشاهدة فعل الفرجة، تقوم على التسلية، إذ يقوم المؤدون بأداء وتعليمه أفكارا على نحو غير مباشر، بالفن الجميل وليس بالوعظ والارشاد.
تعددت الاشكال المسرحية الفرجوية ما بين خيال الظل ومسرح التعزية، ومسرح الحلقة، كلها اشكال اولية، تعتمد المشاركة ما بين المؤدي والجمهور، في روح طقسية، تسرد البطولات والاساطير والحكايات الخرافية بطريقة ادائية تقديمية، بعيدا عن فكرة التقمص التي ارتبطت بمفهوم الايهام بالشخصية وكأنها قناع الممثل الذي يرتديه!
إنّها الحرية التي دعا اليها (بريخت) متجاوزا الشكل الدرامي الجاهز، إذ اوجد لنا في نظريته الملحمية للمسرح، وجذوره الأسطورية، بعدا تغريبيا، يمثل اساسا للفرجة المعاصرة، لأنه يرى العرض المسرحي، نسقاً من الفرجات المسرحية، يكون فيه المؤدون والمتلقون في حالة لعب واتفاق على الفرجة في زمان ومكان مرنين يطول أو يقصر حسب فاعليّة الفرجة، وتأثيرها
بالجمهور.