مقام الفقر الحسينيّ

ثقافة 2023/08/02
...

أحمد عبد الحسين
في عبارة الإمام الحسين عليه السلام في دعائه بيوم عرفة: (إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري)؟

الفقر مقام وجوديّ حاكم، تتأسّس عليه المقامات كلّها، وبه يتحقّق من أدرك أنه بكلّه وبكلّ شؤونه ومتعلقاته مرهونٌ بلطف موجده وممدّه، وعرف أنه على الحقيقة لا شيء من دون المدد، فلم تكنْ له إنيّة ولم يصحّ له أن يقول “أنا” لأنَّ إثبات الأنا إشارة إلى الاستغناء لا الفقر. الجملة “أنا الفقير” تشتمل على إثبات ونفي، فكلمة “أنا” تحدد عين القائل وتمنحه وجوداً مستقلاً بينما كلمة الفقير تطمس هذه العين وتجعلها مفتقرة. وليس في ذلك تناقض أو خلف، هي في الحقيقة رجع صدى للآية القرآنية التي أثبتتْ ونفتْ “يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله”، فكلمة “أنتم” كتبتْ وجوداً بينما كلمة “الفقراء” محتْ ذلك الوجود. والعالم كله بين إثبات ومحو ووجد وفقد.

لأنَّ الغنى صفة كمالٍ للموجود بما هو موجود، ولذا فهو صفة ذاتية للحقّ، ولا أحد يستحقها سواه، الأمر الذي جعل سائر الموجودات في العوالم كلها فقيرة محتاجة، بل الوجود ذاته افتقار، ولهذا ورد في البيت الشعري الصوفي:

لفقرِ قام عندي في وجودي

تكوّن من غناك فصار حالاً


حاكمية الفقر على شؤون الإنسان لا مردّ لها. وهو سارٍ في كل عوالمه مهما كثرتْ وتعددت ممتلكاته. يحوز الإنسان مالاً ومقتنيات ومعرفة وعلماً ومسكوكات مادية ورمزية لكنّه في صميمه يعلم أنَّ ممتلكاته هذه فرع على وجوده، وهو في آخر الأمر لا يملك وجوده نفسه. ولذا ورد عن أمير المؤمنين: “إنا لله إقرار بالمُلك وإنا إليه راجعون إقرار بالهلاك”.

حيازة الممتلكات لا تمنع الفقر، وإذا سميتْ هذه الحيازة غنى بلسان العُرف فذلك مماثل لتسمية الداعي أناه التي هي محض احتياج دائم. الغنى فقرٌ كما أنَّ “أنا” الداعي هي في الحقيقة لا شيء.

والجملة من مقطعين: إخبار وسؤال:

أما الإخبار فهو: أنا الفقير في غناي.

وأما التساؤل فهو: فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟

يلاحظ الداعي في الإخبار حاله بعين الكثرة وهو في مقام إثبات الأنا والتملّك فيرى مسكوكات ومقتنيات لكنه يراها مع ذلك مجللة بالحاجة والافتقار. بينما يلاحظ في السؤال حاله وهو في مقام الوحدة وتقطّع الأسباب فيرى أنْ لا غنى ولا ملك ولا اقتناء، بل الكلّ مردود إلى فقر أصليّ حاكم على الوجود ونحن في آخر الأمر لا شيء. والذات الإنسانية إذا أدركتْ ذلك إنما أدركت إنسانيتها، ولهذا ورد عن الرسول قوله: “الفقر فخري”. لأنه كلما كملتْ الذات تحققت بالافتقار بشكل أشدّ وآكد، وكلما نقصتْ وتسافلتْ طرفتْ بعينها إلى ما تملك وصار لسان حالها قول قارون: “إنما أوتيته على علم عندي”.