كازانتزاكيس وروايته {مقتلة الأخوة}

ثقافة 2023/08/02
...

نجاح الجبيلي 



 عاش الكاتب اليوناني نيكوس كازنتازاكيس (1883 - 1957) أثناء الاحتلال الألماني- الإيطالي لليونان في الحرب العالمية الثانية على حافة الجوع في جزيرة إيجينا. وفي فترة ما بعد الحرب مباشرة، عُيّنَ كوزيرٍ للتعليم الوطني، وكافح عبثاً لتحقيق المصالحة بين الفصائل الشيوعية اليونانية والفصائل المناهضة لها. وهاتان المجموعتان من التجارب، التي كانت محبطة له بشكل مؤلم، هما اللتان جاءت منهما خلفية رواية “مقتلة الأخوة”، وهي آخر رواية كتبها كازانتازاكيس قبل وفاته عام 1957.
  يوظف الكاتب الزمان المحدود بالأسبوع المقدس حسب المأثور المسيحي الذي يبدأ من أحد الشعانين حتى عيد القيامة (يوم الفصح)، لكنه يسمح للسرد أنْ يتراجع للوراء بتقنية الفلاش باك، ليروي من خلالها قصة الأب ياناروس المُسن الصلب، ممثل الرب المفعم بالحيوية لتهدئة القلوب القاسية التي تثير الحقد والكراهية في قرية كاستيللو الجبلية، بينما كانت الحرب قائمة بين ذوي القبعات “السوداء” في ثكنات البلدة وذوي القبعات الحمر المتمردين الذين يربضون على جبل إيتوراكي. وخلافا لكازانتازاكيس نفسه - الذي استقال في عام 1947 بسبب اليأس من الحرب الأهلية وذهب إلى المنفى في فرنسا – فإنّ القسيس ياناروس الشجاع يتحدى بنادق كلا الجانبين بالكثير من الإصرار والصبر منادياً بالسلام والمحبة وبحث عن الحرية التي وهبها الربّ له. 

 وقد تمّ بناء الرواية كاستعارة لشخصية المسيح الحديثة. وهكذا، من الواضح أنَّ مخطط الكتاب مدروسٌ فكرياً. ومع ذلك، فهو مقياسٌ لفن الكاتب اليوناني، فضلاً عن علاقته الحميمة مع الرعاة والرهبان وسكان المدينة الصغار والمحاربين الذين يكتب عنهم، والذي غالبًا ما نشعر به قريبًا من واقعهم.

يُقّدم ياناروس على أنه غريب عن القرية النازفة، شخص تخلى مؤخراً عن وسائل الراحة التي تهدئ الروح في أحد الأديرة. على الرغم من أنَّه يتصارع مع الدوافع المضادة للروح والجسد داخل نفسه، وكذلك مع الرب والناس الآخرين في سعيه كصانع سلام، إلا أنَّ هذا القسيس الشغوف لا يحقق أي ارتباطٍ دائمٍ مع الشخصيات الأخرى التي تمَّ رسمها بشكلٍ متنوعٍ، وهي تتحرك في بانوراما ثرية داخل مجتمع البلدة.

كازانتزاكيس، في جعله زعيم المتمردين ابن ياناروس المفقود منذ زمن طويل، ربما يكون قد حقق ذروة مؤثرة، عدا أنه لم يجرِ تقديمه حتى الربع الأخير من الكتاب، وبعد ذلك تبدو شخصية الأب والابن أنهما بعيدتان تمامًا عن بعضها البعض.

على الرغم من اهتمامه بصياغة رواية مثيرة، كان المؤلف مهتمًا على الأقل بالقدر ذاته بتوظيف شخصية الأب ياناروس للإشارة إلى حاجة الإنسان وحقه في تكوين صورة جديدة عن المقدس لنفسه إذا أراد البقاء على قيد الحياة في عالم اليوم. ياناروس، في سعيه لإيجاد مخرجٍ من أهوال كاستيلو، لديه تجربة صوفية مع المقدس يكشف فيها أنه يجب عليه الاعتماد على الإنسان من أجل إرشاده. في النهاية، يُجبر المؤلف على رفض المسيح، على الأقل كما هو مفهومٌ تقليديًا، مستعيضاً عنه بمسيح حديث. يبدو أنَّه يدعونا إلى أنَّ الإنسان كفردٍ يجب أنْ يبذلَ جهدًا فوق طاقة البشر للارتقاء إلى ما وراء حدود تراثه وبيئته، وبطريقة نيتشوية ونزيهة تماماً، يتحكم في مصيره.

صدرت الترجمة العربية للرواية بعنوان “الأخوة الأعداء” قام بها الكاتب المصري إسماعيل المهدوي وصدرت عام 1966. ومن خلال مراجعتها مع النسخة الإنكليزية وجدنا الكثير من الأخطاء اللغوية والطباعية والزيادة والنقصان واستعمال اللهجة المصرية وحين طبعت الرواية ضمن سلسلة الأسرة مؤخراً لم يجر تدارك الأخطاء وبقيت كما هي وفي ما أمثلة على ذلك:

1. حذف المترجم المهدوي مستلاً وضعه كازانتزاكيس في صدر الرواية. 

2. أضاف أبياتاً من شعر هوميروس لم تكن موجودة في النص الروائي. 

3. حذف كل ما يتعلق بالفئات المعادية آنذاك مثل اليهود بسبب الظروف السياسية والعداء بين العرب والصهاينة خوفاً من الاتهام وخصوصاً أنَّ المهداوي قد سُجن بسبب أفكاره اليسارية في مستشفى الأمراض العقلية في عهد عبد الناصر عدة سنوات. 

لكنْ لا يمكن نكران الجهد الذي بذله المترجم حينذاك في ترجمة الرواية بعد صدورها بعشر سنوات تقريباً.

ونختم الحديث عن كازانتزاكيس وروايته “مقتلة الأخوة” بما قاله ألبير كامو عن كازانتزاكيس في رسالة إلى زوجته في رثائه حين توفي عام 1957: “لقد كنتُ أكنّ الكثير له من الإعجاب، وإذا أجزتِ لي نوعًا من المودة لآثار زوجك، ولا أنسى يومًا بعينه، كنت أسفت فيه على نيل جائزة كان كازانتزاكيس يستحقها أكثر بمئة مرة، فإذا بي أتلقى منه أكثر البرقيات كرمًا، وبغيابه يختفي واحدٌ من أواخر الفنانين الكبار، وأنا من أولئك الذين يستشعرون وسيواصلون استشعار الفراغ الذي خلفه”.