صداع الفساد المزمن

آراء 2023/08/03
...

رعد أطياف
لا نأتي بشيء جديد حين نقول إن البلدان التي يشار إليها بالبنان هي البلدان التي يُطبَّقُ فيها القانون. أول انطباع يحمله السائح معه أثناء الرجوع إلى بلده الأم هو دهشته تجاه القوانين، التي شاهدها أثناء سياحته في البلدان الأجنبية، فيرجع مُحَمّلَاً بالحسرات والأمنيات الحالمة. لكن الحلم شيء وواقعنا شيء آخر. أن مشكلتنا الجوهرية ليست في الفساد، ولا بشكل النظام السياسي، وإنما في ضعف المؤسسات وتطبيق القوانين.

الفساد نتيجة لمقدمة باتت واضحة للقاصي والداني، وهي عدم تطبيق القوانين بشكل حازم. بيد أن القانون هو أيضاً نتيجة لمقدمة جوهرية أعني بها القرار السياسي. لماذا لا تتم السيطرة على المنافذ غير الرسمية التي تُعَد أحد منابع الفساد؟ لماذا لم تتم السيطرة حتى الآن على ما يُسمّى السوق الموازية؟ أنه القرار السياسي، بحسب السيد محافظ البنك المركزي. القضية لا تقف عند تهريب العملة والمنافذ غير الرسمية، بل عم الفساد في صفوف المجتمع. تحول الفساد، واللا أبالية، والتذمّر، وعدم احترام القوانين ظاهرة متفشية بين عموم «المواطنين». في هذا الأسبوع شاهدت ثلاث ظواهر تترجم عمق المأساة التي نعانيها: الأولى كانت تَعَدّي على ضابط مرور أثناء الواجب من قبل سيدتين، وقد انتشر الفيديو في مواقع التواصل. ويبدو أن السيدتين كانتا مدعومتين بـ»واسطة قوية» تمكّنهما من هذا التعدّي السافر. وبالطبع اتخذت الجهات الأمنية اللازم. الثانية، حادث طفيف بين سيارتين فارهتين تقودهما سيدتان، تطورت الملاسنة إلى عراك بالأيدي، مدعوماً بأقذع الشتائم والسباب، وكانت تصرخ إحداهما بسندها القوي ( أيضاً واسطة قوية)، لذا كانت تستبيح لنفسها كل أنواع الشتائم من دون أي احتساب للعواقب القانونية اللاحقة. والثالثة كانت، كما هو الحال، مع رجل المرور، الذي قوبل بإهانة واستهتار من قبل سائق التاكسي الذي رفض النزول لرجل المرور. يمكننا أن نملأ قائمة طويلة عريضة بالقصص المأسوية التي تترجم إلى أي مدى وصل الاستهتار بالقوانين. غير أن التركيز على الفساد الاجتماعي، بوصفه مقدمة جوهرية، يُعد مغالطة واضحة، ذلك «أن الناس على دين ملوكهم». بصرف النظر عن مصداقية هذه العبارة، لكن بنظرة بسيطة يتضح أن رأس الهرم في كل بلد هو المسؤول عمّا تؤول إليه الأحداث لاحقاً. وبمرور الوقت ينطبع، غالبًا، المجتمع بطابعه. بمعنى أن القصة تبدأ من السياسة، فإذا لم يحدث التغيير من قبل الطبقة السياسية فمن يقوم بهذه العملية يا ترى؟ لنفترض العكس: أن مجتمعا ما مصاب بداء الفساد على الرغم من نزاهة طبقته السياسية، هنا يغدو الأمر يسيراً، يمكن لهذه الطبقة السياسية أن تفرض القوانين وتعالج هذا الداء بمرور الوقت، لكن كيف ستكون الأمور لو كان القرار السياسي ضعيفا بخصوص هذ الشأن؟ من المؤكد أنه ستكتمل الحلقة، فساد سياسي يلقي بظلاله على المجتمع، وأحدهما يدعم الآخر، والنتيجة هي الهاوية بكل تأكيد. هل ترانا، والحال هذه، ندور في حلقة مفرغة؛ قرار سياسي ضعيف بخصوص الفساد المستشري، ومجتمع مصاب بالعدوى، محاولاً استثمار هذا الضعف إلى أقصى مدى ممكن، وبالخصوص ظاهرة المحسوبيات، والاستفادة قدر الإمكان من «المعارف» السياسيين. كلّنا نتذكّر ما قاله السيد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بخصوص فوضى مزاد العملة، وأن 30 مليون دولار تكفي لاستيراد السلع لبلد مثل العراق، في حين يتسرّب أكثر من هذا الرقم بأضعاف إلى خارج الحدود. ماذا يعني هذا؟ أن الطبقة السياسية مدركة لحجم وخطورة الفساد، لكن يبدو أن القرار السياسي ليس قراراً واحداً بسبب المحاصصة؛ فما يقوله السيد رئيس الوزراء لا ينسجم، ربما، مع باقي الكتل السياسية، وهلّم جراً!