خضير الزيدي
يتأسس خطاب العمل الفني الخاص بمنجز حيدر علي وفقا لرؤية تصويريّة تخص عالم الذاكرة والعودة إلى الوعي في تمثيل حرية الذات. يتبين لنا ذلك من خلال هاجس المسافة بين كتلة لونيّة وأخرى وبين طاقة الخطوط وآثارها ومخلّفات عناصر العمل الفني، وهذا التبعثر والتشتت في الشكل إنما جاء وفقاً لمخطط فني يبتغيه الفنان وهو يظهر قيمة تكوينه والانشاء الفني بصيغته الأخيرة. وبما أن مساحته الفنيَّة مرهونة بالتجريد فقد تأخذنا صيغة اللوحة إلى وحدة الاعتماد البنائي بين عدة مرتكزات لعل من بينها ضرورة أن يكون الفنان منتمياً لنقاط تلاقٍ بينه وبين المتلقي. وثانيهما أن يقبض على وحدة موضوعيّة تخص عمله ويقع بين المرتكزين ما يسميه بول كلي (الخواص الأساسيَّة في عملية الإيقاع) والتي يقصد بها انفصال وحدات صغيرة واعادة تكرارها والتي هي نوع من الاستمرارية في تتابع الأشكال، ومثل طبيعة هكذا إصرار سيعيد التوازن للعمل التجريدي، وهو يقدم تفسيره لمدى العلاقة بين الأشكال والتكامل في الخط والسطح واللون وحتى التعامل مع جميع العناصر التي على أساسها يبنى العمل الفني مما يجعل اللوحة تحتل مكانة بصريّة والتي هي نتاج حساب يبتدئ من الاتصال بالمحتوى الخارجي لطبيعة التكوين الفني لينتهي بعملية تفسير قابلة للتأويل، وبما أن موقع لوحاته لا يخرج عن نظام المدرسة التجريديَّة فقد وسّع من عمليات الامتداد البنائي لأشكاله وفقاً لفاعلية ذهنيَّة ترتبط بمساحة تختلف في الوحدات وتتشكّل متساوية في إنجاز المعنى، ولكن ما الذي يجعلنا نتأمل عملية التجريد تلك؟.
في البدء دعونا نوضح أمراً أساسياً مفاده أنَّ كلَّ تحول أو عملية تغير من الواقعي الى المجرّد لن تقوم من دون أبعاد وعلاقات محسوبة ضمن ما تثيره المخيلة الفنيَّة وهو أمر لا يدعو للشك والغرابة، فصناعة شكل فني مرتبط بالمخيلة والحرية والوعي سيكون ضمن دائرة جمال متغيرة وما يمكّن الفنان من فعله عبر أدواته يفرض على المتلقي أن يعي قيمة ذلك الخطاب الجمالي والفني لكي نتطلّع الى حدس الفنان ووظيفة عمله وكيف تتم معالجات الفن.
لن نختلف إذا أعدنا التذكير هنا بأن الشكل يحمل طاقات مضاعفة من الجمال وقد يمتد في ذاكرتنا ووعينا جراء ما تحمله الألوان والخطوط والكتل من أدلة وإدراك بصري ولكن في ذات الوقت نتساءل الى اين تأخذنا لوحات حيدر علي؟ وما الغاية من التركيز الدائم على فن تجريدي اعتنى به واوجد له طابعا شكليا يمثل غايته؟، ولماذا لم يستعر من الهندسة الشكليَّة ما يلزم منهجه الصوري؟. علينا أولا أن نعرف أنَّ فنّاً قابلا للتأويل سيرشدنا الى النزعة المثالية التي يدعو لها هذا الفنان وقيمة اللوحة تكمن بعد شكلها في ما تحمله من معنى سواء كان مخفياً أو ظاهراً. ويبقى المهم في حدود العمل الفني جماله وبناؤه الخارجي وما يزخر به من أصول ومرجعيَّة، وربما تبدو التراكيب والبناء في الوحدات لها براعتها وأسباب نجاحها، ولكن لنتذكر دائماً بأنَّ قراءة العمل تلزمنا حدساً من نوع مختلف عن القراءات الأخرى ليس لأنّنا نواجه تصوراً بصريّاً مختلفاً، بل لأنَّ حقيقته الجماليّة تمكننا من إحياء شعور نفسي واجتماعي واكتشاف أشكال قابلة لتعدد القراءات، وهكذا سنبقى في دوامة الاختلاف والانتقال من وجهة نظر إلى أخرى، وسنخضع في النهاية الى التقويم والمواقف النقديَّة ولعلَّ الملفت في حسابات حيدر علي تكمن في هذا التصور بمعنى أنَّ اهتمامه بالشكل يوازي فهمه لحداثة عمله وان كانت لوحاته على مقربة من رسومات التجريديين ممن يوسعون في الشكل إلا أن ما يلوّح به هذا الفنان يبقى في نطاق المسعى الخالص والأكثر حساسيَّة، وأقصد مغزى الأصالة واستثمار جماليات الشكل والاحتفاء بالرسم ليبدو مظهر عمله أكثر انسجاما وقوة وتركيبا.
رسومات حيدر علي تمتلك خزائن شكل خالٍ من الشوائب وبعيد عن الزخرفة واللافن فهو يتعاطى مع لعبة براعة بصرية تدلنا على ممكنات متحفه وخياله وملامح أسلوبه كأنه يثير ما لا يتطابق مع المخيلة لينشغل بوحدات بنائيَّة تجعل المتلقي أمام اثارة ونزعة احتواء من نوع خالص لا يعيه إلا من عرف فن التجريد واقترب أكثر من رؤية لوحاته الغارقة في مفاتن التعبير.