تعدد الفرضيَّات ومستويات التأويل في (انتظار فلاديمير)

ثقافة 2023/08/03
...

 حيدر الشطري

إن الخطاب المسرحي الواعي يعد تعبيراً حيَّاً عن أفكار وآمال وتطلعات المشتغلين في العملية المسرحية، هو ذلك الخطاب الذي يتشكل وفق تطور تلك العملية ومنظوماتها التعبيريَّة والجماليَّة والفكريَّة، وكذلك عندما ترتبط هذه العملية الإبداعيَّة بأواصر علائقيَّة وثيقة مع كل المتغيرات التي تطرأ في المنظومة السياسيَّة والاجتماعيَّة المتحركة باتجاهات جديدة وفي أحايين كثيرة.وأن عملية التوازن بينهما هي من يحدد ملامح هذا الخطاب الذي سيتأسس ملائما لاستيعاب واحتضان طروحات قد تلجأ أحيانا الى إعادة انتاج الافكار بصور وصيغ جديدة ومبتكرة.
وأن أغلب المدارس والاتجاهات المسرحية والتي تعاقبت في تأسيسها على محاولة الخروج على الأنماط والأطر القديمة واكتشاف فضاءات اوسع للتواصل مع المنجز الجمالي المتجدد.
وتعد جدليّة الحضور والغياب المؤطرة بثيمة الانتظار واحدة من المواضيع الرئيسة التي اشتغل عليها الخطاب المسرحي، وذلك بتجريب فرضيات متعددة لتأسيس مساحات كبيرة للتأويل وأنها واحدة من أهم الافكار التي تناقش دوما حال الإنسانية في كل زمان ومكان. لذلك نجد أنفسنا دوما أمام الأسئلة نفسها الذي تبحث عن ماهية المنتظَر غير الموجود أصلا او ربما لن يأتي او أنه أتى وذهب او ان حضوره لم يكن بمستوى الأمل المعقود على حضوره.  ثم من يكون هو...؟
 فهل هو الغياب الذي يستهلك الحياة البشريَّة ويحرمها من وجودها في لجة الانتظار المرير من دون وعي منها، أم أنه الخلاص التي سيجلبه هذا المنتظر إلى الناس المنتظرين، أم هو الوعي الذي اغتالته الأماني الكبيرة والتطلّع الى حيوات أخرى وعندها تحول إلى رمز باهض المعنى وباذخ العناء والذي يعاني منه كل إنسان، وهل ان الحضور هو القبول الأخير للإنسانية للحلول في ظل العجز الذي تواجهه أمام القوى المجهولة حيث لا أحد قادر على إنقاذ أحد.كل تلك الأسئلة هي من تحدد فهم ذلك الخطاب الذي دائما ما تلجأ اليه الطروحات المسرحية وفي الكثير من تجاربها التي تبحث في آليات اشتغال افتراضية تقترحها التجربة، وهكذا نجد انفسنا اليوم بعد مشاهدة عرض مسرحية (انتظار فلاديمير) للكاتب مثال غازي وإخراج سجاد حسين وتقديم جماعة الناصريّة للتمثيل أمام جدليَّة افتراضيَّة تبحث فيما سبق ذكره.

أولا/ النص الأس وفرضيَّة النص الجديد
هناك الكثير من النصوص المسرحية المحلية والعربية والعالمية التي تبنت الجرأة الفنيَّة في تجاوز أطر النصوص العالمية التي اقتبستها، ووضعتها في أنساق جديدة ومغايرة للنصوص الأصلية، وفي معالجات فنية مختلفة عن سابقاتها. وهناك الكثير مما أنجز بتوليفات مبتكرة استطاعت التخلص من ربقة النص الأصلي، والتصدي لتكون مرتكزا لدلالات ومعاني جديدة.
وقد اجتهد الكاتب مثال غازي في انتاج فرضية جديدة في الاقتباس من نص (في انتظار غودو) للكاتب صموئيل بيكيت وذلك بحلول فلاديمير وهو احد المنتظِرين محل غودو المنتظَر والاستعاضة عنه باستدعاء الكاتب بيكيت في محاولة للعب والاشتغال في تجربة جديدة تعتمد على تبديل الأدوار.  فلماذا اختار الكاتب لشخصياته هذه الأدوار، ولماذا كلفوا بهذه المهام الافتراضية الجديدة، وذلك ما يدعنا نبحث في الابعاد الشخصية لكل منها وتركيباتها النفسية المعقدة وذلك لفهم مغزى زجهم بهذا التجربة.
فمن هو فلاديمير ومن هو استراغون ومن ثمَّ من هو بيكيت؟.
لم يفصح أبدا صوئيل بيكيت ولم يذكر شيئاً عن شخصيات نصّه (في انتظار غودو) لكنّنا نستطيع أن نتلمس الكثير من صفاتهم من خلال فهم ودراسة النص، ففلاديمير كان يميل الى الفلسفة ويبحث فيما هو ديني أو لاهوتي بينما استراغون كان ساذجاً يسعى الى كل ما هو دنيوي وكان الأول يفكر كثيراً ويتماهى مع الانتظار، أما الثاني فكان بليداً لا يطيق ذلك وكان الأول صاحٍ على الدوام بينما الثاني يغفو وينام في أحايين كثيرة، وكان الأول ربما مصاب بمرض كلوي أما الثاني فكان أقرب للإصابة بالزهايمر وكان الأول دائماً واقفاً ومنتصباً ومتوثباً لأنّه يعاني من الاضطراب أما الثاني فكان جالسا ومسترخيا لأنّه خامل، وحتى من النواحي الجسمانيَّة فكان الاول أضخم من الثاني في بنيته الجسمانيَّة...
من كل ما تقدم نستطيع أن نتلمس أسباب تكليف فلاديمير بهذه المهمة وبقاء استراغون في مهمته القديمة، وكذلك للتشابه الكبير والتقارب الأكبر بين فلاديمير وخالقه حلَّ الثاني محلَّ الأول.
ولكن ما هي المهمة الجديدة التي اوكلت الى فلاديمير بعد تنحيته عن دوره الاول والتي لم يبين النص أي من ملامحها او حجمها ولا حتى نحن نستطيع أن نتصورها أو نبحث فيها...
وبعد ذلك نستطيع أن نقول إن الكاتب قام بعملية دمج حدثت للشخصيتين فلاديمير واستراغون الكائنين اللذين لا قدرة لهما على الفراق ولا حتى الاتفاق في الوقت نفسه وكأنهما تجسيد لصورة العقل والمادة، أو الروح والجسد، وقد كانت شخصية واحدة تكفي بمواصفات الاثنين وليس المهم ان يكون فلاديمير من غادر فربما الذي غادر هو استراغون الذي أصبح بمواصفات شخصيّة تختلف وأدوار جديدة يلعبها مع اضافة شخصية أخرى بأبعاد وسلوك جديدين وفهم خاص لعملية الانتظار من الذي أثاره للعلن وأماط اللثام عنه وهو بيكيت الذي سيسقط بالدوامة التي ورط الآخرين فيها ووضعهم في أتونها سابقاً.  
وتستند فرضية الكاتب مثال غازي على إعلان ستراغون اعتقال بيكيت الكاتب الاب والتمرد عليه وتوجيب الانتظار عليه  لفلاديمير الذي تحرر من قيوده، ويسعى ايضا لتحرير نفسه من فكرة استلاب شخصيتة؛ لذلك قام بقتل بيكيت وان الشخصية القادمة يجب ان تمارس فعل التحرر وان المخلص يقوم بفك القيود وازالتها. إنَّ نصَّ (انتظار فلاديمير) صرخة بوجه طروحات بيكيت الذي يغلق على شخصياته كل منافذ الثورة والتغيير، فكل إنسان هو نسخة من الآخر.
وان هذا النص يتمرّد على بيكيت الذي يحدد الطابع السكوني لشخصياته ويفرغها من محتواها الثوري.

ثانياً / الفرضيّات والمعالجات الفنيَّة للعرض
لم تكن خيارات المخرج الشاب سجاد حسين ببعيدة عن خيارات الشباب المخرجين الآخرين الذين يُفتنون ويُغرمون بالنصوص الحداثويَّة تلك التي توفر لهم أرضية خصبة لاقتراح رؤاهم ومعالجاتهم الإخراجيّة وتؤسس لبيئة زمكانيَّة بدلالات وإشارات مستترة ومعاني مضمرة دائما ما تميز طروحات شبابنا المسرحي الواعد الذي يسعى الى المغايرة والولوج الى مستويات ومناطق أكثر وعورة لفرش منظومته الفكريَّة والجماليَّة التي يشتغل عليها ويسعى الى تأكيدها. فكانت قراءة المخرج الواعد سجاد حسين الى النص قراءة مشهديَّة واعية استندت الى تأسيس فرضيته الإخراجيَّة بالانطلاق من النص والذي كان أميناً في نقله على الخشبة بتصورات ومعالجات مبتكرة تمحورت في أغلبها حول الشجرة العلامة المهمة التي اشتغل عليها بوظائفها الدلاليَّة المبتكرة وقدرته على تعدد استخداماتها الرمزيَّة وفق تعدد تشكلاتها ضمن السياقات التي سعى إليها جاهداً فكانت الشجرة وأغصانها التي تتفرّع تارة وتتشابك تارة أخرى بديناميكية عالية جعلت منها أن تكون المحور الذي تدور حوله الأحداث وترجع إليه الأفعال، وكذلك كانت مصدرا حاملا لكل المقترحات الجماليَّة التي أراد المخرج تكريسها في عرضه هذا.
وهي الناقل الذي انتقل وخرج من خلاله فلاديمير الى عالم آخر ليؤدي دورا آخر وكذلك الأيقونة التي خرجت منها شخصية نيرون التي جعلت استراغون لم يغادر مكانه لأن كل المدن لم تكن إلّا روما التي أحرقها نيرون وقد أكد المخرج على هذه الإشارة لتكريس فعل الاسقاط ومحاولة اشراك المتلقي فيه مباشرة، وقد انسجمت هذه المعالجة الفنية مع النص في تطلعات شخصياته وطموحها بالتغيير.
  وهي ايضا التي صلب عليها بيكيت أخيراً ولتكون المركز الذي تحولت منه الشخصيات الى عوالم أخرى بدائيَّة، ولم تكن أغصانها التي عبر عنها العرض بالأشرطة الحمراء إلّا خطوط حمراء لا يمكن تجاوز حدودها الجغرافية، فهي تغلق وتحدد وتحيط وترسم كل ما أراد المخرج أن يعبر من خلاله عن أفكاره التي ابتناها لتكون على مستويات متعددة للتأويل.
فكانت العلامة المتحركة التي ما ان تنتقل من مكانها حتى تولّد معنى جديدا آخر ودلالة أخرى حرص المخرج على تصويرها.
ابتدأ العرض بإطلاق الأنوار الزرقاء للمصابيح الليزرية من خلال ثقب قبعة استراغون ذلك الثقب الصغير والذي من خلاله يؤكد على الفرص الضيقة والمديات القصيرة والتي يريد أن يذهب منها بعيدا في أشعتها التي تمتد الى آفاق بعيدة في إشارة للبحث في الأقاصي التي يمكن ان تكون هي العوالم التي غاب فيها فلاديمير ولم تكن تلك المصابيح إلا العيون التي ترى من خلالها الشخصيات والتي بانطفائها تزداد الشخصيات عمى وعتمة وظلام، حتى ان بيكيت لا يستطيع ان يكتشف المكان الذي أسسه سابقاً إلا من خلال هذا المصباح الذي بواسطته كان يرى ان يضع قدميه واين وصل وفي أي مكان هو الآن.
حاول العرض تكريس الصراع الذي اشار اليه النص بين بيكيت واستراغون وتناوب التأثير بين الاثنين ومحاولات الغلبة التي تسعى اليها الشخصيتان، وذلك بتعدد وسائل هذا الصراع فشخصية بيكيت وبكل الكاريزما التي تحملها من الممكن ان تصاب بداء الانتظار بفعل التأثير من قبل شخصية استراغون المعتلة واليائسة والتي تروم الانتقام من بيكيت الذي وضعها في هذا المأزق الكبير والذي لا تستطيع الخروج وربما يكون ذلك بمحاولة انتقال ذلك الداء والتخلص منه.
وقد حاول المحرج في عرضه هذا أن يؤسس مكانا افتراضيا يستمد أبعاده من آليات اشتغال مسرح العبث واللا معقول، فكان لا ينتمي إلّا لبيئة غريبة غير واضحة المعالم لكنّها موجودة في كل الأحوال وهي مساحة كبيرة وواسعة للبوح لا تحتاج من المخرج أن يسقطها على مكان معين بصورة مباشرة ومن ثم إسقاطها على واقع معين بقدر ما اجتهد في محاولة تصويرها بالقدر الذي ينعش تصوراته الجماليَّة والتي كانت بحاجة الى دخول شخصيات أخرى غير معلنة تساعد في تغيير المشاهد والأمكنة وتعيد ترتيب الخشبة بما يُلائم متطلبات أحداثها المتواصلة والتي ساعدت كثيرا في تحريك الفعل المسرحي وإدامة احتدامه واتّقاده.وقد اجتهد الممثلون في هذا العرض الى درجة وكأنّهم يتمثلون بمقولة هيغل (يجب ان تكون خشبة المسرح كحبل السيرك حتى لا يتجرأ من لا يتقن فن التمثيل على صعودها)، وقد امتاز أداؤهم بالتنقل بين عدة محاولات أدائيَّة غير نمطيَّة على مستوى الصوت والجسد فكان أداؤهم اقرب الى التقديم منه الى التقمص، وقد استلزم ذلك وعيا تمثيليا استند إلى تجارب سابقة مماثلة في تجسيد الشخصيات ذات التركيبات النفسيّة الخاصة لولا اختيار الممثل محمد خريش في ركوبه مركبا صعبا عند اختياره لأداء شخصية بيكيت بصوت مستعار أجش لم يستطع معه دفع وتوصيل صوته الى القاعة بصورة واضحة لكنه وعند تحول شخصيته استطاع ان يؤدي بطبقة صوته القوي وان يوصل صوته الى أبعد مكان في القاعة ولا بدَّ من الاشارة الى محاولات الممثل حيدر حسين الجادة في تحولاته الادائيّة والانفعاليّة التي عبر من خلالها عن تمكنه من أدواته التعبيريّة بالقدر الذي أتاح له الإحاطة بشخصية استراغون.