الأدب المُصوّر: عشر قصص حقيقيّة لصوفي كال

ثقافة 2023/08/05
...

 تقديم وترجمة: ملاك أشرف

يجتاز عمل الكاتبة والمُصورة الفرنسيّة (صوفي كال) المألوف والاعتيادية إلى الغرابة والدّهشة ويؤكد الحركة الأدبيّة المُسماة بـ( أووليبو)، الباحثة عن أنماط مُغايرة ومُؤثرة من خلال طرائق تستمع بِها، وتغامر عبرها بطبيعتها الهشّة والمُرهفة وروحها الطريّة لإثارة أفكارها وإلهامها.
يكسر أدب صوفي كال وتصويرها مفهوم رولان بارت (موت المُؤلّف) ويعلن رفضه الكامل للبنيويّة وصرامتها، يسعى إلى استحضار حياة الكاتبة وتجاربها، حيث تدمج ذاتها وخبراتها الحياتيّة مع العمل المُراد بصورٍ حميميّة وشائقة أيّ تُغذي سردها الخاصّ وتبث فيهِ البهاء.
أنجزت عدّة مشاريع أدبيّة وفنيّة منها (المكفوفين)، قيل إنها قابلت المكفوفين منذُ ولادتهم في باريس واستمعت إلى تعريفاتهم للنور والجمال بعد أن سألت عن رؤيتهم للجمال، بيد أنها أرفقت ردودهم بصورٍ وتفسيراتٍ فوتوغرافيّة، تكشف آراءهم بدقّةٍ وعناية فائقة.
لَمْ تكتفِ بهذا وأصدرت كُتيبًا، يضم مجموعةً من القصص الحقيقيّة، المصحوبة بلقطاتٍ لها أو مشاهد استوقفتها وقتها، إذ تتبعت الغرباء في الشوارع بهدف التعرف إلى المدن وتصوير ما تطمح إليه فضلًا عن خلق ذكريات جديدة، فالمراقبة والتلصص الأمر الأساس في تكوين إبداعها وفنّها التذكاريّ الّذي يمدّ الثقافة الفرنسيّة المُعاصرة بالأضواء.
كما قدّمت مقالةً بعنوان (اِعْتَنِ بنفسك) التي سميت على اسم السطر الأخير من رسالة بريد إلكتروني أرسلها لها حبيبها السابق، فطلبت من 107 نساء تمّ اختيارهن من أجل مهنتهن أو مهاراتهن لتفسير هذهِ الرسالة، تحليلها والتعليق عليها آنذاك.
ركزت قصصها على النسيان، الخسارة، الغياب المُفاجئ والرغبة العاطفيّة الهائجة إلى جانب تسجيل تلكَ العلاقات القذرة، عرضت غرامياتها ونفسيتها كموضوعاتٍ أدبيّة وفنيّة على حدٍّ سواء، مثّلت هذهِ الموضوعات الأيّام الضائعة والأحداث الصادمة، الّتي تنشأ بمحض الصدفة كأنَّها سيناريوهات، لا يُصدق وجودها الواقعيّ، لكن بزوغها وفقَ حُبّها وتعلقها بالكاميرا حتمًا.
"ما أثار اهتمامي حقًّا هو أنني لَمّ أتمكن من اكتشاف الموت، كانَ غير مرئي.
لقد كانَ بعيد المنال، هذا ما أثار اهتمامي." تقول صوفي كال!
قد تكون كتاباتها ولاسيّما حكاياتها أشبه بمُلاحظات طبيب نفسيّ أو شذرات نثريّة تميل إلى الأنا الزاهية عندَ الشاعر والعميقة عندَ الفلاسفة ولكن بشكلٍ جذّاب، يجمع بينَ الأضداد والثنائيات كالانتقاء والإكراه، التملك والحُرّية، القرب والبعد وغيرها الكثير..
إن كُتيبها المعنوّن بـ (القصص الحقيقيّة) غير مُحدّد الملامح، يوحي بالصور والنصوص الشِّعريّة تارةً وبالقصص القصيرة والمُذكرات تارةً اُخرى، لا تؤمن بالأجناس والحواجز الأدبيّة ولا تمتعت باليقين المُهيمن لذا لَمْ ترَ ما أنتجتهُ فنًّا فعلًا: "لَمْ أفكر في أن أصبحَ فنانة عندما بدأت. لَمْ أعتبر ما كنت أفعلهُ فنًّا."
لا يخلو هذا الكُتيب من الجوانب الأكثر حرجًا وجرأةً، ممّا يجعل من الصعب الحديث عمّا يحتويه وينقله كافّةً، إذ أمست عقبةً وحجرًا في درب المُترجمين لكوّنها ماجنة أوّلًا ومُظلمة ثانيًا، سقطت صوفي كال في المنطقة المجهولة جراء ذلكَ على الرغم من أن مثل هذهِ الأفعال المُبتذلة غالبًا ما تُمارس سرًّا في البلدان العربيّة وبكثرةٍ أيضًا.
ارتبطت بأيّام الأسبوع جميعها ونكرت يوم الأحد لذا مضت قائلةً: "آه يوم الأحد، أقضي كُلّ وقتي في السرير!" درست علم الاجتماع تحت إشراف جان بودريلار في جامعة نانتير غرب باريس، وكانت بعدها كأستاذٍ للسينما والتصوير في مدرسة الدراسات العليا الأوربيّة في سويسرا، ألقت مُحاضرةً في جامعة كاليفورنيا وقامت بالتدريس في كلّية ميلس في أوكلاند بكاليفورنيا أيضًا.
هُنا عشرة قصص حقيقيّة من الأدب المُصوّر أو فنّ المُطاردة للفرنسيّة الرائعة والعارية صوفي كال وكما وصفتها المُترجمة إيمان أسعد " قصص تُجيد التقاط اللّحظة المُتفجّرة بالمعنى":

رسالة الحُبّ
بقيت رسالة الحُبّ أربع سنوات على مكتبي، لَمْ أتلقَ رسالةَ حُبٍّ قط؛ لذلك دفعتُ لكاتبٍ عامّ- مُتاح للجميع- لكتابةِ واحدة.
تلقيتُ بعدَ ثمانية أيَّام سبع صفحات بهيّة من الشِّعر الخالص المكتوب بالحبر.
كلفني هذا الأمر مئة فرنك، حيث قالَ الرجل: " بالنسبةِ لي.. من دون أن أتحركَ من الكرسي الخاص بي، كنتُ في كُلِّ مكانٍ معكِ!"

الهدية
كنتُ أحبّه لكنهُ قرّرَ أن يتركني ولتخفيف حدّة الانفصال، اقترحَ رحلةَ وداعٍ إلى أشبيلية لمُدّةِ أسبوع، أحبّبتُ الفكرةَ رغم أنها بدت مُؤلمةً للغاية.
وافقتُ وذهبنا حينها وفي اليوم الأخير أخبرني سرًّا بعد أن رأى دموعي، لقد كانَ سرًّا رهيبًا سممَ حياته واعترفه لي، فقط لي، وفي اللّحظةِ نفسها الّتي يحرمني فيها من حُبّه، قدّمَ لي هذا الرجل من خلال اعترافه الدليل النهائيّ على علاقتنا الحميميّة.

فنجان القهوة
كانَ أذكى رجلًا قد عرفتهُ من أيّ وقتٍ مضى في حياتي، اتصل بي ذات يومٍ من أجلِ دعوتي لتناول الغداء، اقترحَ وقتها أن نلتقي في الأسبوع التالي.
كانت فكرة المُتعة الّتي سأحصل عليها بمُجرّد الاستماع إليهِ بغضِّ النظر عن كُلِّ شيءٍ هي فكرةٌ تقودني إلى الشعور بالقلق والضيق، خوفًا من عدم تحقيقها كما يجب لذا سألته عمّا سنتحدث عنهُ لأجهز نفسي.
كانَ تمرينًا سخيفًا بقدر ما هو عبثيٌّ لكنهُ قادرٌ أن يُريحني.
اختارَ موضوعًا على الفور: ما الذي يجعلكِ تستيقظين صباحًا؟
استعديتُ طوال الأسبوع وجمعتُ الإجابات كافّةً.
عندما جاءَ ذلكَ اليوم المُنتظر سألتهُ عن رأيه في الموضوع فقالَ: " رائحة القهوة." هذا ما كانَ.
ثمَّ قُمنا بتغيير الموضوع في نهاية الوجبة بعدَ تقديم القهوة، حيث سرقتُ فنجانهُ كذِكرَى لغدائنا معًا.

القرار
اِلتقيت بهِ في حانةٍ في ديسمبر 1989. كنتُ في نيويورك لأيَّامٍ، سمحَ لي بالبقاء في شقتهِ وقد وافقتُ، أعطاني عنوانها وسلّمني المفاتيح ثمَّ اختفى. قضيتُ اللّيلةَ في سريرهِ لوحدي، عرفتُ شيئًا واحدًا عنهُ جاءَ من قطعة الورق الموجودة تحتَ علبة السجائر.
كتب فيها: " قرارات للعام الجديد: لا كذب، لا غدر."
اتصلتُ من باريس لاحقًا لأشكره وقررنا الاجتماع في 20 يناير 1990.
انتظرتُ في مطار أورلي ولَمْ يصل أو يتصل ولَمْ يردّ على هاتفهِ حتّى. وفي العاشر من يناير 1991، الساعة السابعة مساءً تلقيتُ مُكالمةً يخبرني بما يلي: "إنه جريج شيبارد، أنا في مطار أورلي، مُتأخرًا بسنةٍ واحدة، ترغبين برؤيتي؟" هذا الرجل يعرف كيف يتحدّث معي. (1)

إلى فيكتور هاسلبلاد
لَمْ أرغب بالأطفال، تصور يومًا حزينًا: أشعرُ فيهِ بالخوف والوحدة من حلول الظلام وهُنا يأتي زوجان شابان، الرجل بذراعهِ حولَ خصر المرأة، والمرأة تدفع عربة الأطفال، تخبرني عيونهم أن أفسحَ المجال والطريق لهم- النسل يمنحُ فرصًا مُعيّنة- يحدّقون ببهجةٍ في الطفل وأنا أتنهدُ قائلةً: " أشياء مسكينة" ليسَ رد الفعل معقولًا، أنا أعلم بهذا لكني أشعر بالتحسن حقًّا.

انتظروني
كنتُ في الثانية وكانت والدتي قد ائتمنتي على مجموعة من الأطفال، حدثَ ذلك على شاطئ دوفيل كما اعتقد، عندما كنتُ أصغر سنًّا وكانَ عليهم التخلص منّي، هذهِ هي لُعبتهم، اجتمعوا معًا ثمَّ همسوا ضاحكين وتفرقوا حينما اقتربتُ منهم، ركضتُ وراءهم صارخةً : " انتظروني! انتظروني!" ما زلتُ اتذكرُ هذا.

الحذاء الأحمر
كنتُ أنا وإيميلي في الحادية عشر من العُمر، اعتدنا على السرقة من المتاجر الكبرى بعدَ ظهر يوم الخميس، لقد فعلنا هذا لمدّةِ سنة واحدة تقريبًا، عندما بدأت والدتها بالشكّ قد قالت إن شرطيًا رصدنا وأبلغها بأنشطتنا من أجلِ تخويفنا ولكن بسبب عُمرنا أتاح لنا فرصةً ثانية، سيتبعنا وإن توقفنا عن القيام بمثل هذهِ الأعمال سينسى الماضي. قضينا مُعظم الوقت في الأسابيع التالية نتساءل من هو الشرطي المُختبئ بينَ جميع الأشخاص، الّذين كانوا من حولنا؟ كُنا مشغولتين للغاية في السرقة أثناء مُحاولاتٍ لتفقده. كانت سرقتنا الأخيرة لزوج من الأحذية الحمراء أكبر من أن نرتديها، احتفظت إيميلي بالحذاء الأيمن وأنا حافظتُ على اليسار.

جراح التجميل
عندما كانَ عُمري أربعة عشر عامًا اقترحَ عليَّ جداي أنني بحاجةٍ إلى جراحةٍ تجميليّة، لقد حددوا موعدًا مع جراح تجميل مشهور، وقرّرَ أن أنفي المعقوف يجب تقويمه من خلال ندبة على ساقي اليسرى لا بُدَّ من تغطيتها بقطعةٍ جلديّة مأخوذةً من مُؤخرتي وأن أذنيَّ لا مناصَ من سحبها للخلف. كنتُ مُتخوفةً لكنهم أكدوا لي أنهُ بمقدوري التراجع عن رأيي حتّى آخر لحظة. وبالرغم من ذلك وضع الطبيب "اف" نفسه حدًّا لمُعضلتي، قبل العملية بيومين انتحرَ.

فستان الزفاف
أنا مُعجبة بهِ على الدوام. منذُ أن كنتَ طفلةً وبصمت. سمحَ لي بزيارته في الثامن من نوفمبر، حيث كانَ عُمري ثلاثين عامًا.
عاشَ على بعد مئات الكيلومترات من باريس، لذا أحضرتُ فستان الزفاف في حقيبتي معي من الحرير الأبيض والدانتيل القصير، قد أرتديتهُ في أوّلِ ليلةٍ لنا معًا.

المُنافسة
كنتُ أرغب في كتابة رسالة حُبٍّ لكنهُ لن يكتبَ واحدةً لي وذات يومٍ رأيتُ كلمة(صوفي) مكتوبة في أعلى قطعة من الأدوات المكتبيّة، لقد أعطتني بعض الأمل.
لاحظتُ بعدَ شهرين من زفافنا قطعة من الورق تخرج من أسفل آلة الكتابة، سحبتها نحوي ليظهرَ السطر الأخير من الرسالة: " الاعتراف بأنني قبلتُ الظرف الليلة الماضية مع رسالتك وصورتك." واصلتُ قراءة ما تبقى من الاتجاه الآخر: "سألتني مرّة إن كنتُ أؤمن بالحُبّ من النظرةِ الأولى، هل أجبتُك يومًا؟"
كما لاحظت في أعلى الصفحة أن هذهِ الكلمات لَمْ تكن موجهةً إليّ، بل كانت موجهةً إلى(H)، شطبتُ هذا الحرف واستبدلتهُ بـ(S)، أصبحت هذهِ هي الرسالة الّتي لَمْ أتلقها من قبلُ.

الهامش:
(1)تُحيلني قصّة صوفي كال وتحديدًا عن صديقها الّذي لَمْ يأتِ للمطار إلى قصّة الناقدة الفرنسيّة جوليا كريستيفا.
حيث في إحدى الأمسيات الشتوية في باريس عام 1956، سافرت جوليا من بلغاريا لتجد صديقًا من المفترض أن يقابلها قد نسي الحضور. كانت تبلغ من العمر 24 عامًا، "عظام خد بارزة" و"عيون لوزيّة الشكل" وكانَ لديها 5 دولارات فقط بالإضافة إلى مُجلدين من هيجل وفرشاة أسنان.
أخذتها امرأة من الطائرة إلى السفارة البلغاريّة، تعرفت من خلال جهات اتصال أُخرى بسرعةٍ إلى رولان بارت، الشاعر لويس أراغون والفيلسوف لوسيان جولدمان.