ادّعاءُ المعرفة

ثقافة 2023/08/05
...

 محمد صابر عبيد
يتحصل الإنسان على المعرفة بجهود جبّارة شديدة التنوّع والتعدد والتعقيد والانتشار والتمركز؛ تحتاج إلى أعلى قدر من الصبر والزهد والعناء والعزيمة والمكابدة في مسارات متوالدة يقود بعضها بعضاً بتماسك والتحام شديدين، ويؤدي بعضها إلى بعض بسلاسة ووعي وإدراك وتمثل عال، وتسهم على نحو عميق في دعم الصورة الشخصيّة الذاتيّة له على طريق الفهم والإدراك والإحاطة والقناعة والتواضع، وكلما اتسع حجم المعرفة وتضاعفت قوتها في ذاته قاد ذلك إلى مزيد من الهدوء وعدم البحث المجانيّ والفارغ عن الأضواء، لأن المعرفة تتعارض من الأضواء الساطعة لحاجتها إلى نور يتحرّك بدلالة القيمة المعرفيّة للأشياء بعيداً عن البهرجة الإعلاميّة المزيفة.
لا يمكن لصاحب المعرفة الحقيقيّة أن يصرّح بما يملكه بهدف الاستعلاء والترف والسجال مع الآخرين؛ بل يترك هذه الساحة تماماً ويغادرها إلى حيث ينعمُ بثمارها التي لا تساويها ثمار في الوجود، يعشق الانزواء والوحدة والغربة المعرفيّة الفرديّة بسلوك عشقيّ صوفيّ كثيف؛ إذ توفّر له قدرة إضافيّة على الكشف عن مناطق معرفيّة جديدة يتحرّر جهله فيها، على الرغم من أنّه في كلّ كشفٍ معرفيّ جديد يدرك جهله أكثر حين يرى مناطق معرفيّة أوسع ينفتح أفقه أمامها، ويجتهد إزاء ذلك في مضاعفة طريق البحث لأجل الوصول والإضافة والاكتشاف؛ نحو فضاء يوقظ ما هو نائم ومعزول وغائب ومنزوٍ وخفيّ من طبقات المعرفة.
يحاول من يدخل في النطاق الأصيل للمعرفة أن يكون في قمّة التواضع لأنّ المعرفة قرين التواضع، في حين يقف على الطرف الآخر في هذا السبيل مدّعي المعرفة وهو يحسب بما لديه من فتات معرفيّ أنّه قد حوى المعرفة من أطرافها جميعاً، يضعه هذا الوهم الخطير في موقع لا يناسبه ولا ينتمي إليه لا من قريب ولا من بعيد، ويدعوه -بهتاناً- إلى التصريح بفمٍ ثرثارٍ لا يتلاءم مع قوّة صوته وحجمه وأدائه ومخزونه وتراثه، ويوقعه في مآزقَ قد تودي به وتجهز عليه من دون أن يعلم، بوصفه كياناً أعمى يحسب أنّه يرى الأشياء جميعاً بينما هو لا يرى شيئاً سوى ظلّه، يقوده الادّعاء الكاذب إلى مصير ملغوم بمطبّات لا يقدر على التعامل معها جيّداً؛ وسرعان ما يقع ضحيّة مجانيّة وسطحيّة لها وفيها.
يبدأ الإنسان -كما هو معروف- جاهلاً بكلّ شيء؛ ومن ثمّ تبدأ رحلته للمعرفة في مسارات متعدّدة لا حصر لها، تخضع لِطُرقِ التعلّم والتدريب والممارسة وتشكّل الوعي والخبرة والاطّلاع والقراءة والتلقّي والتفاعل والتعايش وغيرها، وثمّة من يقطع أشواطاً كبيرة في إتقان هذه المفردات والوسائل والوسائط والفعاليّات كي يتقرّب على نحو أو آخر من حدود المعرفة، وثمّة من يتلكأ لأسباب كثيرة فيظلّ بعيداً عن نار المعرفة وينعم بظلّ وافر من الاستكانة والعيش على القليل الذي يعرف، لكنّه مقتنع بهذه المعرفة المحدودة والضيّقة ومدرك أنّ ما عنده قليلٌ جداً لا يمكنه تطويره، فيركن إلى هذه القناعة ولا يدّعي عكسها ممّا يحمّله هذا الادّعاء فيما بعد وزر الادّعاء وأخطاره العميمة حتماً.
تتجلّى المشكلة عميقاً فيمن يدّعي المعرفة متصوّراً أنّ هذا الحظّ القليل منها الذي يتوهّم أنّه كثير يسند هذا الادّعاء، ويروح يغذّي هذا الوهم بأساليب وسبل لا تخفى على من يعرف، وقد تنطلي على من لا يعرف، إذ إنّ ادّعاء المعرفة على هذا النحو أخطر كثيراً من عدم المعرفة، فالجهل يتحرّك في حدود ضيّقة جداً لن يكون بوسعه التأثير السلبيّ الكبير على ما حوله وفي ميدان حضوره، في حين يؤدّي ادّعاء المعرفة إلى كوارث تحصل في المسافة الحادّة القاتلة بين وهم الادّعاء وجوهر المعرفة الحقيقيّة، وتؤثّر في مناطق اجتماعيّة وثقافيّة هشّة وضعيفة قد تستجيب لفوضى الادّعاء المعرفيّ وبهرجته وإعلاميّته وبريقه الكاذب، ومن ثمّ تكون النتائج
مغلوطة بالكامل ويؤسّس لفضاءٍ طارئٍ ووهميّ وفارغٍ يعتقد أصحابه أنّه صادق وأصيل وممتلئ.
تنطوي فكرة الادّعاء على خللٍ ما في شخصيّة المدّعي يدفعه باتجاه محاولة التعويض عن النقص الذي يعانيه، ذلك النقص أو الخلل له علاقة وثيقة بجوهر المعرفة حين لا يحصل المدّعي على ما يحتاج من أنواع المعرفة في سنين التأسيس الأولى، تلك التي تمثّل مرحلة البناء الجوهريّ للشخصيّة المعرفيّة داخل رؤية تقوم على شبكة من المقوّمات المقصديّة، القادرة على توفير الفرص الصحيحة والمناسبة لتشكيل معرفيّ صحيح ينبني على سلسلة طبقات متعاقبة، وتصل في نهاية المطاف إلى وضع معرفيّ سَويّ يدرك فيه الإنسان حدوده ويعرف أين هو بالضبط داخل هذا الفضاء.
تنعكس سلوكيّات المُدّعي على المجتمع انعكاسات سلبيّة واسعة حين يُضطّرُ بعضهم إلى مجاملته، وبعضهم -ممّن لا يميّز بين المدّعي وصاحب المعرفة الحقيقيّة- إلى تصديقه والإيمان به، فقد يضاعف ذلك من وهمه ويكرّس تقاليد قائمة على الخطأ والكذب والتدليس وإشاعة نواميس مغلوطة وتقاليد تضرّ بثقافة المجتمع ومستقبل وعيه، وعندها تمتلئ ساحة المعرفة بالأشنات والأشواك والطحالب والفطريات والجراثيم القاتلة التي تعصف بالأرواح والأجساد معاً، وكلّما تكاثر مُدّعو المعرفة في المجتمع وهيمنوا على مقدّراته بأساليبهم الملتوية الخادعة؛ فإنّ مكافحتهم ستصبح صعبة للغاية بحيث يكون التخلّص منهم ومن أضرارهم عسيراً وصعباً للغاية.