في اتحاد أدباء البصرة.. أكرم الأمير يعود مجدداً إلى مدينته

ثقافة 2023/08/05
...

 البصرة: صفاء ذياب

في جلسة خاصة، استذكر اتحاد الأدباء والكتّاب في مدينة البصرة، الشاعر أكرم الأمير الذي رحل عن عالمنا في العام 2018، بعد مرض لم يمهله طويلاً. الأمير الذي لم يتجاوز عمره السادسة والعشرين ترك إرثاً من المحبة والحضور الطاغي،على الرغم من أنّه لم يصدر إلا مجموعة شعرية واحدة في العام 2013 بعنوان (طيور تفضل المشي)، ومجموعة قصائد كان يقرؤها في المهرجانات والفعاليات الثقافية في البصرة والمدن العراقية الأخرى، غير أنَّه كان صوتاً متفرداً بين أبناء جيله، وروحاً تنشر المحبة والشعر أينما حلّت.
أما المجموعة الثانية التي كان يعد الأمير نفسه لإصدارها، فقد أطلق عليها اسم (الاسم الثلاثي لآدم)، وهي الاسم نفسه الذي أصدرها به اتحاد الأدباء والكتاب في بغداد حينما أطلق على مهرجان (جواهريون) اسمه الأمير لدورته الماضية.
الجلسة التي قدّمتها الشاعرة ابتهال المسعودي، شارك فيها عدد من الأدباء، ابتدأها الأستاذ الدكتور ضياء الثامري الذي أشار إلى أن الجملة الشعرية التي بنيها الأمير لا تشبه أية جملة أخرى، فقد كان شاعر جملة بامتياز.
ويذهب الثامري لطرح رأيه إلى ميلان كونديرا الذي وجده مدخلاً جيّداً لفهم تجربة الأمير شعرية. ففي رواية الخلود أراد كونديرا أن يقدم صورة الإنسان الباقية، الصورة الإنسانية الحقيقية الداخلية مقابل الصورة الفانية الجسدية هذه الثيمة أساسية التي طالما اشتغل عليها الأدب بكثرة أو هي موضوع الأدب أو شغله الشاغل. وأينما وجدنا أدبا يشتغل على هذه الشاكلة فإنّه يستفزنا. وفي روايته الأخرى (الحياة هي في مكان آخر) لم ينشغل بالقضايا الكبيرة كالآيديولوجيا والسياسة وغيرها، بل انشغل بالقضايا الإنسانية الصغيرة. لأنّها جوهر الحياة. وهنا أريد أنأ أقول إنَّ أكرم الامير ينطبق عليه هذا الوصف تماماً لأن الذي يقرأ تجربة أكرم يجد هذا واضحاً، لم يسعف أكرم العمر ولم تنضج تجربته، وربَّما لم يتوغّل كثيراً في تفاصيل الحياة، ولكنّنا مع ذلك نجد في تجربته ما يوجد في أعمال شعراء.
وتساءل الثامري: كيف كان أكرم يكتب الشعر؟ وماذا قدم؟ ولماذا يجعلنا نحتفي بهذا المنجز على قلّته بهذا الاهتمام؟
العالم الشمولي الراهن الذي نعيش فيه هو عالم إجابات قطعاً وليس عالم أسئلة، إنَّنا مثلما يقول أحد الأدباء الكبار نعيش عصر حماقة اليقين البشري بفعل التكنولوجيا. دائماً هنالك إجابات. لكلِّ شيء إجابة. كل ما نسأل عنه ثمة إجابة هناك. العلم يجيب. والإجابة تكون حاضرة ومؤجّلة ثمّة يقين علمي، وهذا لا جدال فيه، وهو ضروري لديمومة الحياة المعاصرة. ولكن أمام هذا الأمر ما مصير أسئلتنا الداخلية، أسئلتنا الإنسانية؟ هل يستطيع هذا العلم أن يجيب عليها أو يجيب عنها؟
أمام هذا الأمر ما مصير أسئلتنا؟ هل يستطيع العلم وتستطيع التكنولوجيا أن تجيب عنها، أسئلتنا الداخلية سوف تبقى معلقة. إذ لن تتمكن التكنولوجيا ولن يتمكن العلم من الإجابة عليها. وهنا يأتي يعني دور الأدب ودور الفن وهذا يعرفه الجميع، ودور الشعر على وجه الخصوص. الشعر بصورة خاصة بوصفه حواراً داخلياً مع ذواتنا المغتربة دائماً في عالم اليوم.. العلم أجاب عن مرض أكرم إجابات يقينية، ولكن أسئلته ظلّت معلقة، لم يجب عنها العلم. تجربة أكرم الأمير في هذا المفصل المهم تشتغل بكليتها. النص الشعري هنا عنده هو السؤال وهو الإجابة. اليقين الذي يمنحه العلم لن يكفي لهذا السبب، ولسبب آخر هو أنَّ الشخصية العراقية بطبيعتها شخصية لا يقينية، شخصية لا تعرف أين تريد أن تذهب، وربما هي طبيعة المجتمع العراقي بسبب الظروف التي مر بها المجتمع العراقي، اليقين يكاد يكون معدوماً، ولكنَّ أعلى درجات اليقين هو أن يبقى الإنسان ملاصقاً لفطرته، والشعر هو أقرب الفنون إلى فطرة الإنسان، وهذا ما يدركه الشعراء الكبار، غير أنَّنا حينما نجد هذه الفطرة عند شاعر شاب مثل أكرم الأمير، يعدَّ تفرّداً، لذلك تكون التجربة تستحق القراءة.
ولعل فطرة الأمير هو السبب وراء
سحر تجربته الشعرية وتحليقه خارج السرب قياساً بمجايليه، ولعله وجد
يقينه في الشعر، لهذا يمكن أن أعده بأنه شاعر الخلاصات، وهو شاعر الجملة،
وهو شاعر التشبيهات النادرة، وشاعر المفارقة.
وفي ورقته التي كانت طويلة ووافية، أعطى الثامري نماذج من شعر أكرم الأمير ليثبت مقولاته، مثل:
ذات مرّةٍ كتبت
أحبّك
في محاولة لولادة نص جديد
ولكنني لم أجد أيَّ كلمة بعدها.
*
والله أكبر
في الفجر جملة تفلت
أصابع الليل المتمسك
بسطوح المنازل.
*
ها هي النحلة
تقف على كتفك الأيسر
مثل سيّئة.
*
أنا الرجل الذي يتكاثر
حين يراكِ
ويصير خفيفاً مثل خلاصة الحديث.
الروقة الثانية كان للشاعر علي إبراهيم الياسري، الذي عمل على إنجاز مجموعة الأمير الجديدة (الاسم الثلاثي لآدم) وقدّم لها، فيقول في ورقته: يحار قارئ الشعر حين يأسره غموض القصيدة مرة، ويحار مرّات حين يغمره الوضوح الذي يشعُّ في جمل يشعر أنَّها مستعملة وقد ألف سماعها، لكنَّ وقعها وأثرها وآفاقها صار مختلفاً. إذ كيف للسر أن يُفتضح من دون أن يفقد جوهره السري. أن يكون مشاعاً وعصياً دفعةً واحدة. هذا جزء أصيل من تجربة أكرم الأمير، الشاعر الذي عرفه القراء بالنصوص، وعرفه المقرّبون منه بالشعر الذي يتجاوز نص القصيدة إلى نص الحياة.
ويضيف الياسري: من النادر أن تجد شاعراً يفكّر بقصيدته شهوراً طوالاً في زمن السرعة، لكنَّ أكرم كان يفعل ذلك بشكل غريب، إذ يبدو نصه الجديد الذي ينشره في جريدة أو يلقيه في مهرجان، ليس جديداً علينا، لأننا نعرف تاريخه، وكيف كانت تلك الجملة لحظة ولادتها، وكيف صارت وتشكّلت بعد أن جعلها الشاعر تستلم للسياق الذي ارتآه لها. كانت الجملةـ التي ختم بها أكرم مجموعته الأولى (طيور تفضل المشي) هي "لقد متُّ وانتهى الأمر"، وقد بدت لقرّائه بمثابة نبوءة بعد رحيله المبكّر عن الحياة التي كان وفياً لتفاصيلها.
لكنّها نبوءة مخاتلة، لن تتحقق ما دام الأثر والتأثير، حتى في اللحظات التي كان يكابد فيها الآلام، حرص الأمير على أن يولي قرّاءه اهتماماً خاصّاً، وهو يترك لنا وصيّته الأهم المتمثّلة بالقصائد الأخيرة التي بين أيديكم.
وعلى الرغم من كثرة الأوراق النقدية التي كانت معدّة، وقرئ بعضها، مثل ورقة الدكتور ماهر الكتيباني، وتقديم الشاعر كريم جخيور لمجموعة الأمير الأولى، وعددد آخر من الأوراق التي لم يتمكن معدّوها من قراءتها لضيق وقت الجلسة التي امتدّـ لأكثر من ساعتين، لكن الحاضرين كانوا يطالبون بقراءة قصائد عدّة للأمير، فكانت هناك قراءات من قبل علي إبراهيم الياسري، ومقدمة الجلسة الشاعرة ابتهال المسعودي.