علي المرهج
قيل في الأمثال العربية أن «الوقاية خير من العلاج»، ومن خبرتي بالفلسفة ودراستها وتدريسها لأكثر من ثلاثين عامًا، وجدت أن الفلسفة تصلح للوقاية خير من أن تأتي بعد مرض لتكون هي العلاج، أو كما جاء في كتاب سعيد ناشيد «التداوي بالفلسفة».
أقصد بالوقاية بالفلسفة، هي التحصين ضد أمراض المجتمع السارية، ولا أقصد بها أمراض الجسد الإنساني، بل الوقاية مما هو سائد من خرافات وعادات ونزعات دوغمائية موروثة لا عقلانية، أرى أن قراءة الفلسفة تنفع في الوقاية منها أو الوقوع أسرى حبائلها.
قراءة الفلسفة بوعي عقلاني تقيك شر التوظيف لها لصالح نزعة مذهبية أو أيديولوجية مواربقة، كل هم جماعتها استعمال الفلسفة وكأنها أداة لخدمة توجهاتها «الجماعاتية»، التي تبحث في الفلسفة عما يخدم رؤاها الفكرية التي تجعل الفرد تابعًا فيها لا حضور عقليا له إلا بالقدر الذي يتساوق مع فكر «الجماعة».
قيمة الفلسفة بوصفها فكرا نقديا تساعدنا من الوقوع في شرك وهم «امتلاك الحقيقة» الذي يظن الأيديولوجيون والعقائديون كل بحسب توجهه أن له فلسفته الخاصة، التي مكنته من الوصول للحقيقة، والفلسفة براء من كل نزوع يدعي أصحابه أنه تمكنوا من الوصول لها، لأن الفلسفة بحث عن الحقيقة لا إدعاء امتلاكها، وكل من يدعي أن له فلسفة تمكن من خلالها الوصول للحقيقة إنما هو فكر أيديولوجي بأدوات فلسفية يؤسس لنزعة دوغمائية، ولذا فهو يستخدم الفلسفة ويستعملها، ولا يعيش بها، لأن «العيش بالتفلسف»، يعني استمرار السؤال الفلسفي في كل ما يحدث ويحصل في حياتنا بكيف؟ ولماذا؟ ومتى؟.
جل الأمثلة التي عرضها سعيد ناشيد في كتابه «التداوي في الفلسفة» إنما كانت أقرب للمعنى الذي اقترحناه ألا وهو «الوقاية بالفللسفة»، فقد كانت فلسفة سقراط فلسفة لوقاية الشباب من الوقوع بالزذيلة، والدفاع عن الفضيلة، ولم يكن نقده للسفسطائيين وفلسفتهم إلا للتنبية على خطرها في إحلال ما هو نسبي محل ما هو مطلق، بمعنى الوقاية من نزوعهم في استعمال الفلسفة بغير مواطنها، وهي رسالة للشباب اليوناني للوقاية من خطرها.
على الرغم من وجود اعتراضات على نقودات سقراط للفلسفة السفسطائية، وقد اتفق مع الكثير منها، ولكن نقوداته لم تكن علاجية بقدر ما كانت وقائية.
لقد كانت الفلسفة الرواقية فلسفة وقائية لاتقاء التعاسة وحسن اختيار فن العيش بسعادة، فكل حزن نمر أو قد نمر به، إنما هو سبيل لتعليمنا «فن العييش» بسعادة، لأن ما يحصل لنا واقع نعيشه، قبلنا به أو لم نقبل، وبحسب قول «سينيكا»:»فإن ما نعجز عن إصلاحه من الأفضل تحمله»، وعلى الرغم مما في هذا القول من دعوة للقبول بـ «القدر»، لكنه يحمل بين طياته دعوة لمن لا قدرة له على التحمل بأن يقبل، ولكن المتمردين لهم حياة أخرى يصنعونها، فهو لا يهرب من قدره ولكنه يتحدى:
فمن يتهيب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحُفر
لا ينفع من مسه مرض الخوف والخضوع للأيديولوجيا والدوغما علاجه بالفلسفة، لأنه تمترس بأطرها، وصار قادرًا على استخدامها للمحاججة وغلبة الخصم، ولكنها تصلح للوقاية لو تمكنا من تربية النشأ والشباب على معرفة القيم الفلسفية مثل: التفكير الناقد، والحرية الفكرية، والمسؤولية، والاستقلالية.
دافعت كثيرًا عن دور الفلسفة في اليقظة، والمشاركة في اليومي لاستنهاض الوعي النقدي ورفض القبول بما هو سائد بوصفه مألوف فنقبله، لأنني أعتقد أن من مهمات الفلسفة هي محاولة خرق المألوف ومسائلة السائد، وعدم القبول به لمجرد أنه موروث، ومثل هكذا محاولة محفوفة بالمخطار في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لأنها تستفز الراكد وترمي حجرًا فيه، وكل مجتمعاتنا المحافظة لا قدرة لها على اليقظة من «سباتها الدوغمائي» بتعبير مستعار من محمد أركون، لأنها ترتكن للتمسك بنزعة المحافظة سلطة وجمهورًا، وكل مسعى فلسفي لغرض الوقاية من «جذام» هذا السبات، والنوم الطويل على سرير الحلم من دون إعمال العقل الذي كان مصيره الصد والرد والتشكيك بنزوعه الفاعل للنهضة.
كيف نعيش؟ وكيف نستطيع تحسين قدرة الإنسان البسيط على التفلسف؟
هي أسئلة يجد سعيد ناشيد في الجواب عليها إمكانية «التداوي بالفلسفة» وأنا أجدها أسئلة للوقاية بالفلسفة، لذلك أرى أن الفلسفة البراجماتية التي تعاملت مع الفلسفة تعاملًا للوقاية كما أحسب لأنها تمكنت بها وفيها ومنها من لم شمل المجتع الأمريكي للوقاية من شر الاقتتال العرقي والأثني، وصناعة هوية جديدة اسمها الهوية الأمريكية لمجتمع متباين (هجين) بحكم نشأتها الجديدة واختلاف أفكار الوافدين إليها، قد تمكنت من جعل الفلسفة مؤثرة في «التغيير» لا التفسير بتعبير مستعار من الفلسفة الماركسية.