عماد جاسم
اشتبكت أصابعي بتوتر ملحوظ ودونما إرادة وأنا أختار مقعدي في أحد المقاهي الشعبية ، بعد أن خرجت من دائرة التقاعد محاولا إنهاء مستلزمات الخروج النهائي من الوظيفة، بعد ثلاثين عاما ، أزعم أنها كانت حافلة بالنجاحات والسمعة الطيبة والمثابرة التي يرافقها الصبر والنكد والحسرة على حال البلاد وسير عمل إدارة المؤسسات فيها .
لا أنكر خشيتي من الوحدة والملل، وأجد نفسي مأخوذا بفكرة استعادة بريق السنوات الضائعة، فثمة أمنيات يتيمة تتقافز في الخاطر مثل عصافير سجينة ، قد أجهل بعضها وأسخر من أكثرها، فهي لا تناسب عمري أو مركزي الاجتماعي .
المقهى الذي أرتاده كل يوم يتوسط سوق الصدرية الشعبي المزدحم بمحال بيع الدراجات الهوائية، وهو ما جعل الحلم يتكرر في منامي في المساءات وأوقات الظهيرة، وأخجل من مطالبة أصدقائي الأطباء النفسيين بتفسيره، مجرد ظهور سريع لوالدي المتوفى منذ ما يقارب نصف قرن، ومعلمتي التي فارقتها منذ دراسة الابتدائية، يخبرانني بابتسامة وديعة أن أقتني دراجة هوائية ! لتحقيق سعادتك المغيبة واسترداد طفولتك الضائعة بين اليتم المبكر والخيبات المتلاحقة ،،، لم أعرف سر ظهورهما المتكرر في المنام في هذا الأيام التي تشاطرني فيها الحيرة والجزع مع تكرار التساؤلات الذاتية والوجودية عن رحلة أعمارنا بين مطاحن الوجود والغباء المتناسل في علاقتنا الوظيفية ولذة السعادة المفتقدة، وذلك الجري المتوحش نحو المكاسب وإرضاء أصحاب الكروش والمناصب، وتلك الاجتماعات العقيمة والنقاشات البليدة مع بشر متخم بالصدأ ،،، كيف كنا نبتسم لهم ، نرافقهم ؟ كيف تسربلت السنوات واختفت ملامحنا الحقيقية في لجة الزيف والمكابرة أننا على قارعة الصواب واليقين ؟ .
ويبدو أن العقل الباطن تتقاذفه أحلام طفل يتيم ورغبات متقاعد مخذول يبحثان عن أداة أو مشاريع أو تمرد لاسترداد كنوز ضاعت ولحظات سرقت، أو يبحثان عن وسيلة مبتكرة للاستشفاء من القلق والانكسار ، لا مناص من الاتصال فورا بصديقي الطبيب النفسي الذي أخبرني بأن سر هذا المنام يكمن في رغبات دفينة، لكنها غير واقعية يا صاحبي ،،، أجد في وصايا من أحببتهم وغادروني مبكرا نصائح لطفل يريد الاستمتاع ، وليس لمتقاعد في عقده الخامس ...
كيف لي أن أخرج من المقهى باحثا عن وسيلة سعادة مطمورة تحت صخور من الهموم والخيبات،
هل فعلا سأستجيب لحكمتهما في اقتناء دراجة هوائية خضراء بمقود أحمر صغير وجرس صغير أسود؟ نعم فقد كانوا يكررون مواصفاتها، ويبتسمون محذرين من استبدالها بأي دراجة أخرى .
انتبهت إلى نفسي، هل يعقل أن يستدرجني حلم إلى مناطق الوهم والخرافة، مصدقا تعويذة الأموات، قفزت مختنقا من دخان الأراكيل في مقهى الصدرية، متوجها إلى تجار الدراجات الهوائية، فقد كسرت الشمس، ولذة الوهم أقل قسوة من مزاولة الواقع، عند كل محل يجبرني الخجل على الصمت والتحديق متنقلا بناظري بين الدراجات القديمة والحديثة.. في المحل السادس عثرت على غايتي وأخبرني البائع أنه يناسب عمري وطولي وهو أخضر كما طلبت،، أحسست لوهلة بأن الدراجة تبتسم لطفولتي وتناديني أن أقتنيها، وفعلت فورا، وسرت سريعا لأترك أنظار الناس الفضولية في السوق، متجها لشوارع صالحة للتجوال وتحقيق احتفالي بعمر جديد ورغبات مكتومة،، درابين منطقة شارع فلسطين كانت أولى المحطات التي جذبتني لرفع صوتي بالصفير والغناء بصحبة دراجتي الخضراء، مقلدا بنشوة مراهق محب لعبد الحليم حافظ في فلم معبودة الجماهير، أتلفت معجبا بهذا الجنون العجيب وخائفا في ذات الوقت من المنتقدين، صوت غنائي كان متحشرجا ومنطفئا بسبب العمر وقلة اللياقة البدنية، والعيون المتربصة تحاصر لذتي المتوترة وتجبرني على إنهاء تجربة البحث عن سعادات بريئة ويتيمة بالوقوف والاستسلام ،،، عدت مسرعا إلى بيتي لأخلد إلى نوم عميق يجمعني بأصحاب فكرة اقتناص السعادة المستحيلة،، إطلالتهم هذه المرة حملت شيئا من الخيبة على حالي ، بعد أن فشلت باقتفاء أثر الفرح أو استرداد حقي بالبهجة التي ضيعتها لعقود خلت، فقد برروا ذلك بأن الشوارع لم تعد تحترم الحالمين أو الباحثين عن الطفولة، والناس صاروا يحاصرون المحبين بالسؤال المريب والسخرية، وبغداد لم تعد بغدادك يا صاح، أنت المتقاعد المهزوم بكل المعارك وقد خذلتك السنوات وتخذلك اليوم الأحلام البريئة والسعادة المجهضة.