د. كريم شغيدل
كان المجال البصري مهملاً- إلى حد ما- من لدن الدراسات النقدية القديمة منها والحديثة، ويمكن أن نرد ذلك إلى أسباب بنيوية وتاريخية، إذ تعد الكتابة التي هي محور الخطاب البصري فعلاً لاحقاً للإنشاد الشعري السائد، فضلاً عن جاهزية الفضاء البصري للشعر العربي، ويرجح أن يكون أسلوب كتابة القصائد جاء في حقبة متأخرة فالشاعر لم يحتسب للتوزيع البصري وما سيكون عليه النص بوصفه منجزاً قرائيا- مرئيا، ومن الثابت أنَّ الشعر ذو طابع إنشادي، وعلاقة المتلقي به علاقة سمعية، فالوقفات التي رسم في ضوئها (بيت الشعر) كتابةً هي في الأصل وقفات سمعية، وما علامات الترقيم التي وفرتها التقنيات الطباعية الحديثة إلا إشارات سمعية تبين سياقات الجمل والوقفات السمعية للقصيدة.
إذا افترضنا وجود قصدية بصرية ما فهي قصدية مشاعة، لم تنتج خصائص أسلوبية معينة، وينطبق هذا على الأشكال الشعرية الأخرى كالمسمط والقواديسي والموشح، أما الأشكال التي كانت تنطوي على قصدية بصرية كالقلب والتفصيل والتختيم، فبصرف النظر عن خواصها المنفعية (الإخوانية) لم يكتب لها الشيوع ولم يردنا منها سوى نماذج متأخرة نسبيا وقليلة في آن، وهي أشكال يمكن عدها جزءاً من التطور الشكلاني الذي يخضع للمتغيرات العامة لأنَّ قوانين تطور الفن مرتبطة بالتحولات التاريخية والثقافية لتطور المجتمع، من هنا يمكن القول إنَّ العلاقة بين الشعر والرسم, عبر التاريخ, تتخذ مسارات متفرعة, يمكن إجمالها على النحو الآتي:
المسار الأول: وظيفي/ تقني (صيرورة بنيوية) يخص الإفادة من وظيفة الرسم وتقنياته في تشكيل اللوحات النصية, بناءً على ما نشأت عليه الفنون من تأثيرات متبادلة, منذ أقدم العصور, وانطلاقاً من ماهيتي الشعر والرسم وطبيعة تشكل بنياتهما "ولعل أقدم نص نعرفه في تاريخ الأدب والنقد الغربي عن هذه العلاقة الساحرة الغامضة بين الشعر والفنون التشكيلية هي العبارة المنسوبة إلى سيمونديس... التي يقول فيها إنَّ الشعر صورة ناطقة أو رسم ناطق, وإن الرسم أو التصوير شعر صامت"، كما ورد في كتاب (الشعر والرسم) لفرانكلين روجرز، وإذ لا ننفي كون (الصورة الشعرية) تقنية أساسية من أصل النسيج الشعري؛ مع أنها تنتمي من حيث الأداء وطبيعة التشكل ومصدره (المخيلة) إلى كيفية الأداء التمثيلي للرسم، نؤكد على جزئية الشعر بالنسبة إلى كلية التصوير, فالشعر كما يقول الجاحظ: "ضرب من النسيج وجنس من التصوير" مع الأخذ بعين الاعتبار: أولوية الصورة على الرمز (الكتابة الصورية) وأولوية الفعل البصري على الفعل السمعي غريزياً وتاريخياً (الرسومات البدائية في الكهوف) وأولوية الخامات التشكيلية على الشعرية ( خامات الطبيعة التي تتشكل تلقائيا وبالمصادفة لتنتج أشكالاً تمثيلية) وأولوية الإشارة على اللغة، فضلاً عن أولوية اللغة الاجتماعية على اللغة الأدبية، بصرف النظر عن أولوية الشفاهي في إطار اللسانيات، نخلص من هذا إلى أنَّ تصويرية الشعر هي محاكاة لسانية لتقنيات المتخيل التشكيلي، وهي محاكاة ضاربة في القدم، تعود على الأرجح إلى البداية الغنائية ـ إن صح التعبير ـ بعد نفاد الغايات الموضوعية للشعر (الأناشيد، الشعائر، الأساطير) ما جعل التوازي بين فني الشعر والرسم حقيقة قائمة، عبر كم هائل من التراث الشعري في التاريخ الإنساني، وهذا المسار الذي يمكن وصفه بـ (المسار اللساني) تتفرع عنه مسارات قصدية لاحقة، من أقدمها ما يمكن أن يعد ظاهرة موضوعية، ونعني به محاكاة أو وصف أثر تشكيلي معين واتخاذه موضوعاً شعريا، فالشعر يستنزل الوحي أحياناً من الرسم أو النحت أو الموسيقى, وقد تغدو الأعمال الفنية الأخرى موضوعات للشعر, شأنها شأن الأشخاص وموضوعات الطبيعة، كما جاء في نظرية الأدب لرينيه وليك وأوستن وارين، ففي الشعر الحديث كما في الشعر القديم نماذج شعرية تحاكي آثاراً فنية مشهورة (رسوماً أو منحوتات) يستعرضها د.عبد الغفار مكاوي في كتابه (قصيدة وصورة)، وقد استثمر عدد من الشعراء المعاصرين فعل الرسم و دلالاته بمستويات متعددة بمثابة صيغة سردية للأداء الشعري، وحاكى عدد آخر منهم تقنيات اللون والظل والضوء بقصدية واعية لرسم لوحة شعرية بالكلمات, وذهب آخرون إلى محاكاة أساليب الاتجاهات الحديثة في الرسم, كالانطباعية والسريالية والتكعيبية
وغيرها.
أما المسار الثاني: فيمكن وصفة بـ (المسار الميتالساني) وهو من أشد الاتجاهات الشعرية إثارة للجدل، ويعنى بإنشاء قراءة بصرية و تنافذ أجناسي بين فني الشعر والرسم، وعادة ما ينطوي على مقصديات فنية وفلسفية, أو أيديولوجية ـ على وجه الدقة ـ وهذا المسار يتفرع بدوره إلى محاور عدة، فإما أن يكون صورياً خالصاً, أي أن تحل الصورة بدلاً من الكلمة، وتتركب الأشكال عن الجمل بتنوعات أيقونية، كما في تجربة الشاعر ناصر مؤنس الذي نفذ مجموعتيه تعاويذ الأرواح الخربة، وهزائم، بطريقة الكرافيك, معولا على الطاقة الصورية للحرف العربي وإيحاءاته الصورية, وإما أن تكون مزيجاً دلالياً من الصورة واللغة, بطريقة مركبة كما في تجربة د.كمال أبو ديب أو طريقة منفصلة, أي تكون الصورة بمثابة الأجزاء (الجمل) المتممة للغة النص, كما في تجارب متعددة, وفضلاً عن هذه التداخلات, ثمة تداخل من نوع مستقل ينبني على إيجاد عناصر فضائية للنص من خلال الخط, يعول به على فكرة اشتراك عين المتلقي بحركة خط اليد وحركتها وتكريس أسلوب خطي معين بمثابة دال نفسي أو أيديولوجي أو ما إلى ذلك, كتجربة الشاعر المغربي محمد الطوبي وتعد تجربة الشعراء المغاربة, هي الأكثر شهرة واتساعاً في هذا المجال، إذ تحولت إلى ظاهرة ذات مهيمنات أسلوبية في الشعر العربي المعاصر, ويمكن عدها تجربة مركبة تنطلق أيديولوجياً من فكرة تكريس الهوية, وذلك من خلال ما ينطوي عليه الخط المغاربي من أبعاد تاريخية (سايكولوجياً واجتماعياً ـ جمالياً وفكرياً) ومركبيتها تكمن في كونها عولت على اللغة (الفضاء النصي) والخط (الفضاء البصري) والصورة (الفضاء الصوري أو ما تنتجه الكتل الخطية من أيقونات ذات ملامح) باتجاه مدلول مشترك, فضلاً عن أنها تجربة متكاملة أحيطت بسقف نظري واسع، كما يقول محمد الماكري، يصوغ وجودها جمالياً وأيديولوجياً, وقد يقوم الشاعر بعمليتي الإنجاز النصي والإنجاز الخطي (الرسم) أو أن يعهد لخطاط أو رسام بتنفيذ نصه, وهنا قد يقترح المنفذ قراءة صورية للنص, مشاركاً في المدلول أو متمماً مدلول النص, وقد ينفذ بحسب المقترح الفضائي للشاعر, مع ذلك تظل الدراسة الأسلوبية لهذا النوع منشطرة بين أسلوب الشاعر وأسلوب الخطاط, لا سيما أن الخط فن مستقل, وللخطاط مهيمناته الأسلوبية كما للشاعر.