رسائلُ حبِّ خوان رامون خيمينيث إلى حماره {بلاتيرو}

ثقافة 2023/08/06
...

  ماريا بوبوفا

  ترجمة: عبود الجابري

تحت سطوة مخاوفنا المقلقة، مخاوفنا العميقة، محتمين بدروع الإيمان الصدئة، فإن الحنان هو ما نتوق إليه - الحنان لتهدئة اتصالنا بالواقع، لتدفئتنا مستيقظين من الذهول المتجمد للحياة الراهنة. ذلك ما تشعر به عند قراءتك (أنا وبلاتيرو) للشاعر الاسباني الحائز جائزة نوبل خوان رامون خيمينيث (1881 - 1958)، رسائل حب يكتبها لحماره “بلاتيرو»، ورغم ما تثيره هذه الرسائل من بهجة عارمة واحتفاء بالطبيعة والانسانيّة المفرطة التي تتبدى في ثناياها، إلا أنها تبدو تعبيراً خرافياً عن مدى الشعور بالوحدة.

من مسقط رأسه “موغير” - بلدة صغيرة في الأندلس الريفيّة - بدأ خيمينيث في كتابة هذه النصوص النثريّة عام 1907، مؤرخاً علاقته مع بلاتيرو التي امتدت لأقل من عام واحد، غير أن ظهورها الأول كان بعد عقد من كتابتها، وتبدو في جوهرها تعبيراً عن حقيقة بسيطة هي أنّ ما نحبّه ومن نحبّه هو عدسةٌ لتركيز حبّنا للحياة نفسها، الحنان الذي ينظر به خيمينيث إلى بلاتيرو الذي شُغف بتكرار اسمه كما لو انّه تعويذة عشق هو حنان التعايش مع الدهشة والهشاشة. يحتفل بعينيه الكبيرتين اللامعتين المتماسكتين اللتين تشرق فيهما الشمس؛ إنَّه يقدّسه على أنَّه “صديق للرجل العجوز والطفل، للجدول والفراشة، للشمس والكلب، للزهرة والقمر، صبورٌ ومتأمِّل، حزين ومحبوب” فيقول له: “تعال معي. سأعلّمك الزهور والنجوم”.

وتراه كذلك يكتب له:

«انظر بلاتيرو، هناك الكثير من الورود تتساقط في كل مكان: ورودٌ زرقاء، ورديّة، بيضاء، عديمة اللون، وذلك يجعلك تعتقد أنَّ السماء كانت تتفتت إلى ورود، وأنّ هذه الورود ألقيت على الأرض من صالات الفردوس السبع، يبدو أنّ حياتنا تفقد قوتها اليومية يا بلاتيرو، رغم حراك الملائكة، وأنّ قوة مختلفة من الداخل، أعلى وأكثر ثباتاً وأنقى، هي من يضفي عليها هذا الجمال كما لو أننا في نوافير من النعمة، ... عيناك اللتان لا تستطيع النظر إليهما وترنو بهما إلى السماء هما وردتان جميلتان”. يجوب الشاعر والحمار معًا الريف الأندلسي في حالة انسجام حميمي مع بعضهما البعض ومع العالم الحي:«عبر طرقِ الصيف الخفيضة، المكسوة بزهر العسل الرقيق، كم نتجول معاً بلطف! أقرأُ  وأغني أو أقرأ الشعر في السماء. يقضم بلاتيرو العشب المتناثر على الضفاف المظللة، وأزهار الخبّاز المغبرة، والحميض الأصفر. يقف أكثر مما يمشي، ويعرف أنني لا أمانع، في كثيرٍ من الأحيان يتوقف بلاتيرو عن الأكل وينظر إليَّ، بين الحين والآخر أتوقف عن القراءة وألقي نظرة على بلاتيرو”.

هناك أصداء من (والت ويتمان) في المتن الوصفي الذي يدوّنه خيمينيث:

«أمامنا حقول خضراء بالفعل، في مواجهة السماء الهائلة الصافية، النيلية المتوهّجة، عيناه - بعيدتان عن أذنيه! - مفتوحتان بكرم للترحيب بالهدوء، ذلك الهدوء الذي لا يوصف، ذلك الصفاء المتناغم الإلهي الذي يسكن في الأفق اللامحدود».

هذا الحب اللا متناهي يرافق الشاب والحمار العجوز وهما يعبران التلال والوديان في رحلاتهما اليوميّة، حيث يمتد المساء إلى ما هو أبعد من حدوده الطبيعيّة، والساعات المكتظة بالخلود، لا نهائيّة في هدوئها وعمقها. مرارًا وتكرارًا، يزيد حضور بلاتيرو من استمتاع الشاعر بالجمال، ويعمّق اتصاله بفكرة الخلود:

“ما زلتُ في النشوة قبل الشفق. بلاتيرو، عيناه السوداوان القرمزيتان مع غروب الشمس، يمشي بلطفٍ إلى بركة من المياه القرمزيّة والورديّة والبنفسجيّة. يغمر شفتيه بلطفٍ في المرايا، والتي يبدو أنها تسيل عندما يلمسها”.

يبدو احتفاء خيمينيث بالنشوة شبيهاً بنوبات حزنٍ لا مفرَّ منها، تنبع من حقيقة أن البقاء مستيقظًا للحياة هو يقظة للفناء كذلك، وإدراكًا منه أنّ هذه الحياة الساحرة مع محبوبه بلاتيرو ليست دائمة، لذا فإنَّ خيمينيث يصل إلى حزنِ المستقبل ليكرّسه بفرح:

“بلاتيرو. سأدفنك عند سفح شجرة الصنوبر الكبيرة في البستان، والتي تحبها كثيرًا. ستبقى جنبًا إلى جنب مع حياة مرحة وهادئة. سيلعب الأولاد الصغار وتخيط الفتيات الصغيرات بجانبك على مقاعدهن الصغيرة المنخفضة. سوف تسمع القصائد التي تلهمني العزلة وتسمع الفتيات الأكبر سنًا يغنين عندما يغسلن الملابس في بستان البرتقال، وسيكون صوت الساقية فرحًا وسلوى لسلامك الأبدي. وعلى مدار العام، ستنشئ لك طيور الحسون سقفًا موسيقيًا صغيرًا بين سباتك الهادئ وسماء -موغير- اللا نهائيّة الزرقاء”.إنَّ قراءة ما يكتبه الشاعر عن حماره يفصح عن حقيقة مفادها أنّ كل شيء نصقله باهتمام يصبح مرآة، وهكذا أصبح بلاتيرو مرآة لروح خيمينيث:

“في كثير من الأحيان يتوقف بلاتيرو عن الشرب ويرفع رأسه إلى النجوم، مثلي، مثل النساء في لوحات ميليت، بشوق ناعم غير محدود”.يمتد تعاطف خيمينيث المشرق مع الكائنات الحيَّة إلى ما وراء عالم الحيوانات، وفي روابط التعاطف هذه والحرص على حمايتها يتعرّف على بوابة الخلود كما يبدو في نصوصه:

“كلما توقفتُ يا بلاتيرو، يبدو أنّني أتوقف تحت الصنوبر المنتشر، ناثراً  وفرة من اللون الأخضر تحت السماء الزرقاء العريضة مع السحب البيضاء، ما مدى قوتي عندما أرتاح تحت ذاكرتها! عندما كبرت، كان الشيء الوحيد الذي لم يتوقف عن كونه كبيرًا، هو الشيء الوحيد الذي أصبح أكبر طوال الوقت، عندما قطعوا ذلك الغصن الذي كسره الإعصار، ظننت لحظتها أنَّ أحد طرفيَّ قد اقتلع؛ وأحيانًا عندما يُداعبني بعض الألم بشكلٍ غير متوقَّع، أتخيَّل أنه يؤذي شجيرة صنوبر بعيدة.إنَّ هذا النوع من الكتابة هو تذكيرٌ بأنَّ فنَّ الشعر، مثل فنّ الحياة، يتلخص في جودةِ الاهتمام الذي نوليه للأشياء - تأكيدٌ حيٌّ على أنَّ “الاهتمام، الذي يؤخذ إلى أعلى درجاته أمرٌ يشبهُ بالصلاة، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان لمثل هذه الكلمات أن تصيبنا بالقشعريرة بعيداً عن التفكير بالكائن المعني بها:

“كان بلاتيرو، يمسح رأسه الأشعث الكبير بقلبي، يشكرني حتى أصاب صدري”

هذه هي اللحظات التي يتمُّ فيها احتواءُ الحياة بالكامل، جمال يجعل هذه اللحظة العابرة خالدة من دون نبض، كما لو كان ميتًا منذ الأزل رغم وجوده على قيد الحياة، يخلط خيمينيث دائماً بين الفرح والرثاء:

«شاهد كيف تغرب الشمس، التي تتجلى بشكل كبير وقرمزي كإلهٍ مرئي، تجذب لنفسها نشوة كل الأشياء، وفي شريط البحر تغرق في الصمت المطلق الذي يقوله العالم”  مرارًا وتكرارًا، يعود إلى الحقيقة الأساسية للوجود، الموجودة في كل زهرةٍ وفي كلِّ نجم، الحقيقة التي تقول إنَّ البقاء على قيد الحياة يكمنُ في هذه اللحظة فقط، وإنّ الخلود ينبثق من إهابِ أية لحظة تماثلها:

«بلاتيرو، بلاتيرو! سأبذل حياتي كلها وأتمنى منك أن تقدم حياتك، في مقابل نقاء هذه الليلة العميقة المشرقة من يناير»

عندما يضحي بلاتيرو بحياته في النهاية، يقابل الشاعر موته بنفس الشوق الكبير إلى الخلود الذي يعيش في كل شيء سريع الزوال، فيكتب أثناء زيارته لقبر بلاتيرو مع أطفال القرية الذين أحبوه كثيرًا: 

«بلاتيرو، يا صديقي!” قلت للأرض “إذا كنت، كما أعتقد، في مرج من مروج الجنة، وتحمل ملاكاً مراهقاً على ظهرك الأشعث، فربما تكون قد نسيتني، بلاتيرو، أخبرني: هل ما زلت تتذكرني؟”

ماريا بوبوفا: كاتبة من أصول بلغارية تقيم في الولايات المتحدة الأمريكية

المصدر:  

مجلة الهامشي The marginalian