يايوي كوساما.. احتواء العتمة.. فضاءٌ للبوح

ثقافة 2023/08/07
...

 ابتهال بليبل

إنَّ ماهية الإبداع تكمن - من وجهة نظري-  في محاورة ومعالجة صدمة نفسيَّة عميقة أو جرح بسيط، شيء ما في أوج تألقه أو اندحاره أو عند بلوغه وانفجاره، فلا يمكن أن نتجاوز شظاياه بسهولة، شيء ينتفض من (ذات) نحو (موضوع) فيصوغ خلال تشكيله رؤياه الخاصة؛ لذا لا أجزم ولا أقطع بشكل حاسم، عند الخوض في مرجعيات نتاج فني
وأدبي.
فلا أدّعي -مثلا- أنّني أعرف ثيمة هذه اللوحة أو ذاك النص الشعري إلا كإنتاج لتجربة محتدمة متوالدة، قد أقدّر تأثيرها تبعاً لما تقدمه من ألم، ودهشة وصدمة، ومن ثمّ أتأمل قدرتها على المقاومة في عالم متسارع.
وهكذا كانت (يايوي كوساما) تنظر للفن، فهو -عندها- من أشكال العلاج..  إذ عاشت حياة غير مستقرة مريرة بدأتها في العمل ليلاً ونهاراً في مصنع عسكري خلال الحرب العالمية الثانية تخيط المظلات والأزياء الرسميَّة للجنود اليابانيين.. كانت مراهقة ضعيفة، حالمة، قلقة عندما حُطِم بلدها بقنبلتين ذريتين، في سابقة أولى في الكون، ليرسم هذا المشهد عتمة بالغة الحلكة على قماشة روحها الناصعة، عتمة لا تفارقها إلى الأبد.  
فمأساتها الكبيرة، ستظل كبيرة ولا ينطبق عليها القول المأثور أن المصائب تبدأ كبيرة ثم تصغر، عكس كل الأشياء، فالخراب الذي عمَّ كلَّ خاطرة وبادرة أمل، سيكبر مع الوعي بما جرى ولماذا جرى، لذا من يتأمل أعمالها بدقة سيجد ذلك الهاجس منشورا في  كل
جزئية.
أنتجت كوساما التي كانت تعاني بسبب تجاربها المبكرة من ذهنيّة سيئة وذكريات موجعة أعمالاً تتناول على وجه التحديد المعاناة التي تسببها الحرب، فرسمت تراكم الجثث المظلم التعبيري، حيث ظهرت دائرة من الجحيم تتصاعد إلى فراغ.. الفراغ باستثناء البقايا المتفحّمة لشجرتين ميتتين.
إنَّ اللون الأسود هو مسكن وجودها الدائم الذي تقيم فيه، فهو عالم لا متناهٍ.. وهو مزيج من جماليات الخوف والقلق التي تبدو من النظرة الأولى للمتلقي حميدة ولكنها سرعان ما تصبح أكثر إثارة للقلق - كما لو أن الظلام يجذبك نحو هاوية أبديَّة- على الرغم من فعالية الألوان الأخرى واندماجها كصرخات طويلة تطلب الشفاء من عالم أفكاره مخيفة وأحلامه تتحول إلى كوابيس.
تمكنت كوساما من طرح مخاوفها الكامنة في داخلها نحو العلن، لقد جسّدت تلك المخاوف على شكل أعضاء حسيّة.. تشعر وكأنها حيّة ولها فاعلية تستجيب لحقيقة وجودها المخفي.
اشتهرت الفنانة اليابانية يايوي كوساما بمعارضها التي تضم غرفاً من المرايا، النقط والأضواء مبتكرة لفضاء لا متناهٍ من السحر والألوان.
وقد ألهمت الكثير من فناني عصرها، فهي من أوائل الذين قدموا الفن التجريبي المعاش، أو بمعنى أصح الفن الحي.