مهند الخيكاني
حتى أشد الخيالات عمقاً وشساعة في العالم، تعتمد في انبثاقها الأولي وشرارتها عن تفاصيل ومشاهدات حاضرة في الذهن، نابعة من صلب الحياة. فليس هناك خيال دونما أساس متين من المعرفة الأساسيّة عن أشياء العالم والبيئة، إذ إن الواقع الصلد هو مادة الخيال الخام. من ذلك ينجح الكاتب والفنان في تمرير الكثير من الأفكار عبر أحداث مختلقة، بغض النظر عن كون هذه الأحداث مناظِرة لأحداث شبيهة في الواقع وقد حدثت مسبقا.
الأمر الذي يقود المتلقي إلى التوسع في تفاصيل الأعمال الفنيّة على أنواعها وخاصة التاريخيّة منها بحذر ودقة، فهي في آخر الأمر تجسيد لمرحلة زمنيّة معينة، وما فيها من تفاعلات بين الفرد والحياة وأشياء البيئة، وما فيها من تقاليد وعادات، أدت الى تكوين تلك الشخصيّة وذلك العقل وتلك اللحظة اللامعة، وهي تنبض بفكرة جديدة، وهو ما ينطبق على جميع الفنون والكثير من الممارسات الطقوسيّة والعقائديّة.. ثم أننا لو رجعنا الى ذرات تلك الصورة، لوجدناها من مشتقات الحياة والواقع والبيئة، وبقدرة ذهنيّة، وعاطفيّة، مع امتزاج معرفي اولي من جانب وثقافي من جانب آخر، أخذ بالفنان والكاتب إلى تلك الصورة النهائيَّة.
أغلب الوقت لا نلاحظ الخيال، ذلك أننا نتكئ على خبرات مسبقة في الحكم والقبض على القصد والتأويل، لكنه في الحقيقة أشبه بالزيت الذي يجعل حركة المحركات والسيارات والعجلات سلسة وناعمة، تخفف الحدة والاصطدام، وتلين الصلب بالصلب، وتجعله متماسكا، ممتزجا في نظام كلي.
يبدو للوهلة الأولى، تكوين من تفاصيل تنتمي لجنس واحد لا متعدد الأجناس والنوعيات.
وبذلك نحن نخفف وطأة الاحتكاك، ومعالجته بالتخفيف والتحديد، وغالبا ما تحدث هذه العملية بشكلٍ آلي ولا إرادي في الخارج، وحتى في حياتنا اليومية والشخصية، إلا بمقدار ما ندرك حول
الأمر.
نحن نحتاج إلى الخيال في كل شيء تقريبا، بدءا من العلوم والمعارف التي تستند الى النظرية العلمية والتجريب، فلا يمكن للفرد أن يفكر ويتنقل من فكرة إلى أخرى من دون وسيلة ناقلة تتيح له ذلك، الخيال هنا يعمل تلك الوسيلة الناقلة من دون أن نشعر.
هو نفسه من يسهل علينا الانتقال من سطر الى اخر في عملية القراءة والكتابة والحفظ، فهو المادة السحرية المخالطة لأكثر الأشياء منطقية وواقعية في حياتنا.
فمهما أنتج الانسان من أعمال خيالية تدّعي انها خيالية محضة، تجد هناك آثارًا وملامح تقف عند أولى خبرات الانسان ومعارفه عن الأشياء، وكمثال عن ذلك، هناك الكثير من أفلام الخيال العلمي، مثل سلسلة افلام حرب النجوم، وافلام الرعب وغيرها التي تكون فيها الوجوه مختلفة وغريبة والأماكن غير مألوفة، والمركبات التي لا تطير، نراها تحلق في أرجاء سماوات مرعبة أو خلابة، ومع ذلك فإن اللبنة الأساس التي انطلقت منها هذه الافكار والتخطيطات العجيبة والصادمة، تستثمر الواقع المألوف والشائع، ثم تعكسه أو تضيف عليه أو تنقص منه، وفق ما يراد للفكرة والرؤية.
كذلك نلاحظ ذلك عند رسامين وشعراء انتجوا غرائب تحولت الى مدارس فيما بعد، ومع كل تجردها فإنها تعيد انتاج الواقع بهيئة حلميَّة تهيكلها الفكرة ويختمها القصد والهدف.
فليس هناك من خيال مجرد من جذور تمتد الى الواقع، الا اذا كنا نرى الخيال من زاوية أخرى، وبشكله الضيق الذي يعتمد آلية، حدث أم لم يحدث في الواقع، كشيء تم الاستدلال عليه عقليا، وتعرفت عليه
الحواس.
ويرى المخرج الروسي ستانسلافسكي في كتابه «إعداد الممثل في الصفحة 125: إن الخيال يخلق الأشياء التي يمكن أن توجد أو يمكن أن تحدث.
بينما يرى في التخيل أنه يخلق الأشياء التي لا وجود لها، والتي لم يسبق لها أن وجدت، والتي لن توجد أبدا.
وعلى الرغم من التعريفات المختلفة للخيال إلا أنها في مطلق الأحوال، تُجمع على: أنه عملية ذهنية يتم خلالها تجاوز العوالم المألوفة إلى أخرى، بهيئة جديدة، تتجاوز المحسوس والذهني المألوفين.
إذن، الخيال هو الوجه الآخر للواقع بعد أن ينفخ فيه الفنان من روحه، أو تقتضي الحاجة البشرية ذلك.
ولو أخذنا الانسان في خلقه كنموذج للطرح، لوجدنا أن كل ما تحدثنا عنه متمثل فيه، إذ إن إحدى الأفكار الشائعة والمتفق عليها، أنه مخلوق من الطين، وهي مادته الأساس، فنفخ فيها الإله من روحه، فتشكلت وأصبحت هذا الإنسان، بملامحه وذراعيه واتساق جسده.
بمعنى آخر، يمكن أن نقول وفق هذه الآلية، إننا خيال الإله، ورأى ابن عربي ذلك في قوله «إن الخلق مفعول الخيال الإلهي في الكون».
ولهذا يمكن اعتبار ما ننتجه نحن كمخلوقات، من خيال يفترض أننا آلهة من درجة مختلفة، ويفترِض في أبعاد أخرى أن مخلوقاتنا تملك خيالا خاصا بها أيضا، يتفاعل مع خيالات أخرى، وينتج كائنات أخرى، وكدليل على ذلك، ما ينتجه الفنانون في شتى المجالات من أعمال فنيّة باهرة، بدورها كموجود يضاف إلى الموجودات، تثير وتتأثر بما حولها، وتترك أثرها في متلقٍ آخر، يزاوج بينها وينتج من جديد خيالات جديدة.
هذه الآليّة تجعلنا أمام سلسلة لا نهائيّة من الخيالات، تتكرر، تتجدد، ويحدَّث عليها، بحسب درجات التلقي وطرق التعامل معها، ولهذا يطيب لي تسميتها «خيال الخيال»، وبما أن الخيال والتخيل قدرة متأصلة في الجوهر البشري وهي قدرة عقلية في الأساس، تعتمد اشياء الحياة وتفاصيلها مادة للتصوير والتشكيل، واشياء العالم بطبيعتها لا نهائية ومستمرة ومتوالدة ومتجددة وقابلة للتعديل والتحديث مثلما هي قابلة للانهيار والتآكل والانحسار، فهي بلا نهائيتها هذه تطبع الخيال معها بطابع اللانهائيّة.