د. صباح التميمي
قصيدة النثر - عندي - جنسٌ أدبيٌّ يحضر فيه الشعر، ببعض سماته العامة، كما يحضر في الأشياء فتبتسم، يلامسها بروحه التي ترفرف باللغة فتحلّق، بعيداً عن حديث الايقاع، وإشكالات تجلّيه في جسدها، وعلى بشرتها الخارجيَّة أو أحشائها الداخليَّة هي كتابة هجينة، تمارس محاولات تصحيح جنس، لكنها تبقى خنثى!؛ لذا نجدها تستعين بتقانات أجناس أخرى، مجاورة لها، فتقترض من الشعر - بهويته العربيَّة الصارمة - انضغاطه وتكثيفه وبخله وإيجازه وغنائيته ومجازاته وانزياحاته، ومن القصة بعض ملامح هويتها الخاصة كتقانات زمن، وتضاريس أمكنة سردية، وأصوات شخصيات، وأحداث مضغوطة، سريعة، لا تكاد تفصح عن هويتها السرديَّة، لانشغالها بالأداء أكثر من انشغالها بالمحتوى وهذا عكس ما تمارسه القصة القصيرة، بمعنى أن اللغة في قصيدة النثر غاية، وأشياء السرد وسيلة، في حين أنها في القصة وسيلة لولادة سرديّة هادفة، تؤدّي فيها اللغة وظيفة الوسط الناقل للعلامة البصريّة: الشاشة التي تعرض لنا سردا فلميّا، وهذا الفرق من أهم الفروق التجنيسيَّة التي قد تساعد بعض النصوص الضائعة بين عوالم السرد والشعر على تحقيق هويتها…
إنَّ العبور الأجناسي الذي قد تقترفه نصوص تنتمي للقصة القصيرة لمناطق شعريَّة، وأخرى تنتمي لقصيدة النثر لمناطق سرديَّة عبورٌ صحيّ إذا ما حافظ العابر على خصوصيّة جنسه، هذا المبدأ جيّد مع النصوص التي تُفصح عن هويتها بما يكثر فيها من عادات وتقاليد وأدبيات وملامح جنس بعينه، لكن الأمر يزداد تعقيداً مع (قصيدة النثر)، فهي ليست بالشعر خالص العروبة، أعني الشعر بهويته العربية الخليليَّة (عمود + تفعيلة) وليست أيضا من النثر خالص العروبة: نثر فنّي بحت.. وهذا يفتح باب مأزق تعميدها، وتجنيسها، وتأطير هويتها، ولعل النص الذي يفتح باب أسئلة الاحتمالات تتفشّى معه حالة صحيّة تبتعد بالراهن عن الأحكام الجاهزة، والقوالب الجامدة التي تكرر نفسها. ربما لا أختلف كثيرا مع من يطرد (قصيدة النثر) من مدينة الشعر المثاليّة العربيّة، ولا مع من يعدّها منه مع ما فيها من تشوّه ولادي إيقاعي وإعاقة نغميَّة، لكنّي أختلف كثيرا مع من يجنّسها نثريّا بلا وعي ظاهر… وبطريقة متعجرفة!!!! فأنواع النثر متعددة، ولكل منها ملامحه العامة التي يلتقي بها مع أقرانه من النوع نفسه، مع اختلاف يسير، فالرسائل والمقامات والتوقيعات والترجمات ذات الصبغة الأدبيَّة في مدوّنات التراث كلها أنواع أدبيَّة تحتفظ بهويات ثابتة، تنتمي بها إلى النثر العربي وأدبيته، والرواية والقصة القصيرة تصنّف ضمن (السرد) الذي هو تحوّل عن مأثور النثر… ولعل هذا الثبات، هو الذي بغّض هذه الأشياء للعقل المتحرّك، الذي يعيش هاجس التغيير والتبديل والتمرّد على الجاهز والمُعطى والثابت والمتقولب… لكننا في أحيان كثيرة نجعل من التجنيس آليَّة قراءة، فالتعرّف على جنس الجنين النصّي من خلال إحدى ملامحه السطحيَّة يُمكِّن القراءة من التعاطي السليم معه، عبر مقاربته بمنهج ومنظومة مصطلحيَّة ومعياريَّة تكتسب شرعيتها من مبادئ نظريَّة بُني عليها جنسه.
ولعلّي أجد هنا ضرورة ملحة لاقتراح سمات قد تكشف لمن تتناسل برأسه الأسئلة عن تعالق هذين اللونين من الكتابة أهمها:
1 - اللغة في قصيدة النثر مبنية على تقنيات الانزياح والمجاز والبخل والتكثيف والمفارقة والضربة… في حين أنها في القصة القصيرة بيضاء، وظيفتها توصيليَّة مباشرة، فإذا وظّفت تقنيات الشعر على نحو مبالغ به شُوِّهت .
2 - الحدث في قصيدة النثر ذو ظهور ومضي سريع، وهو لا يمثّل في الغالب مجموعة وقائع تنتظم في سلك زمني معيّن لتشكل القصة، بل قد يُقدّم بشكل ملامح شبحيَّة خافتة تُفهم على أنها حدث أو هكذا يراد لها أن تكون، في حين أن القصة تعمل على تشكيل حدث واضح بأنساق مختلفة متتابعة أو متقطعة أو متشابكة .
3 - المكان يحضر في قصيدة النثر على نحو لا يُفصح فيه عن ماديته الفيزياوية أو الفنية بسهولة، وغالبا ما يكون منطقة عبور هامشيَّة تمنح اللغة المتسارعة مساحة استراحة وصفية بسيطة، لذا فهو جسر للعبور إلى المعنى، وقد لا يمنح الحدث فرصة التشكّل فيه والتمدّد بيسر، على نحو ما نجد في القصة لا سيما المكانيَّة منها.