مقتربات في قراءة «خزامى» لسنان أنطون
باقر صاحب
يمكن القول إن المقتبسات التي يضعها الكتاب في مطالع كتبهم، تمنحنا قبساً ما يضيء هواجسنا كقرّاء في أن ندرك ولو بشكل يسير، ما يرمي إليه الكتاب من مضامين في متون كتبهم. هذا ما أدركناه من مقتبسات مطلع رواية “خزامى” للروائي العراقي المغترب سنان أنطون، وهي من ضمن ما يعرف بـ (العتبة النصيَّة)، وتشمل أيضاً عنوان الرواية وغلافها الأول والأخير. الغلاف الأول من ضمن مفرداته صيوان أذن، وسماعات آيباد، وثلاثة أشكال مستطيلة، أحدها منقع بالدم في دلالة على العنف خاصة والحروب عامة، وثانيها برتقالي، وبحسب تفسيرنا لنقوشهِ فإنه يرمز إلى الضد أي الحب والسلام، وثالثها مستطيل أفقي، فيه صورُ نوتات موسيقيّة، قد ترمز إلى أغان ومقطوعات موسيقيّة قد تثير في شخصيتيّ الرواية الرئيستين (سامي) و (عمر) ذكريات مفرحة أو حزينة.
هناك تأكيدٌ على المكان والهوية والذاكرة في النصوص التي اقتبسها أنطون من الشاعر العراقي سركون بولص، والشاعرة الأميركية دوريان لاكس، ومسرحية الملك لير لشكسبير، والفنان التشيلي باتريسيو غوزمان، وكذلك الغلاف الأخير، وهو مقتبسٌ من متن الرواية بعنوان (وطن) يعضّد فحوى المقتبسات، وكلما توغّل القارئ في قراءة مقترباتنا لهذه الرواية، يوقن نسبيّاً ما نرمي إليه.
الصفحات الأول من الرواية، تكشف عن شخصية (سامي) رجلٌ عراقيٌ مسن، مصابٌ بالخرف، وهو طبيب متقاعد، أغتيل أخوه الأستاذ الجامعي، كما اغتيلت زوجته على أيدي مسلّحين مجهولين، أيام أحداث الانفجارات والاغتيالات التي سادت العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، فيقرّر سامي الهرب إلى دبي، حيث سكن مؤقتاً مع ابن أخيه، ومن ثمّ يسافر لاجئاً إلى أميركا، هناك أسرة ابنه سعد وزوجته وحفيديه التوأمين. يضطر ابنه سعد إلى إيداعه في دار رعاية للعجزة، بعد أن عجزت أسرته عن رعايته، لأنّهُ صعب المراس، وكذلك كان انطباع مديرة الدار التي تكلّف ممرضةً عشرينيَّة برعايته، اسمها “كارمن”، حيث صنعت مقارنة بين جدها وسامي، من خلال معاناة الاثنين من الحروب وويلاتها، فكان جدّها قد خدم في الجيش الأميركي في أثناء الحرب في فيتنام، وبعد عودته هو ونظرائه، ظلّ يعاني من أشباح الحرب، ما سبَّبت له كوابيس، وتلك أفقدته الذاكرة، مثلما هو العراقي سامي المصاب بالخرف، بسبب ما فقده من حرب أميركا في العراق.
تحاول كارمن أن تفيد من كلِّ فرصةٍ في سبيل إغناء مهارتها وخبرتها في رعاية المرضى المكلّفة بهم، فعلمت أن هناك معهداً لعلاج أمراض الخرف والزهايمر والباركنسون بالموسيقى، فتذهب إلى المعهد لمشاهدة المحاضرة والورشة، التي تعقب المحاضرة. صممت كارمن على تطبيق هذه التجربة على، عانت من صعوباتٍ في الأمر، من قبل مديرة الدار، لجهة أنه يجب الحصول على موافقة الجهات العليا، خشية أن تحدث تلك الموسيقى تأثيراتٍ معاكسة، فأقنعتها كارمن، بأنه ستبحث عن المقطوعات الموسيقية التي تثير ذكرياتٍ سعيدةً وليست حزينة.
هنا يستخدم أنطون “الفلاش باك”، حينما كان سامي في سفرةٍ جماعيةٍ ومعه الفتاة التي يحبّها، الى جزيرة أم الخنازير، وهنا غنّى سامي “البنفسج” للمطرب العراقي ياس خضر. الاسترجاع الذي أحدثه الراوي، لم يكنْ بالضرورة هو الذي حصل مع سامي، وانما يريد القول أنَّ كارمن تهدف للوصول إلى هذا الاسترجاع الكامل لذكريات سامي، فما حدث؛ أنَّ سامي ابتسم قليلاً، وانهمرتِ الدموع من عينيه، حين كانت السماعات في أذنيه متصلةً بجهاز الآيباد، وفيه تسجيل أغنية ياس خضر.
يُدخل أنطون خطاً جديداً في الرواية هو شخصية الشاب عمر، الذي غادر العراق أيضاً، وهنا يؤكد أنطون بأنّه لم يحمل سوى حقيبةٍ صغيرةٍ فقط، لأنه يريد أن يستأصل البلاد من ذاكرته، وحتى محتويات الحقيبة سيتخلّص منها تباعاً، سوى القرآن الصغير الذي أهدته إياه أمّه. سيكتشف عمر لاحقاَ أنّه لم يستأصلْ شيئاً، فكلُّ شيءٍ محفوظٌ في العقل والقلب. يقدّم أنطون لنا شخصياته بذاكراتٍ مختلفة تماماً، منها مفقودةٌ، ومنها حيَّة. بعد الحصول على اللجوء، تصبح أميركا الوطن الجديد لعمر، نقول هذا وأنطون بوساطة راويه العليم، يدرجُ فقرةً مستقلةً عن مفهوم الوطن، فهو، من وجهة نظر عمر، أصبح مفردةً رثةً من كثرة تردادها في القصائد والأغاني والشعارات، هنا يتم تحديد العهد السابق، بوصفه أوّل من أفرغ الكلمة من معناها، بحسب الاستشهاد التالي العائد إلى عمر” شاهد ذات مرة أحد أعمدة النظام، سعدون حمادي، يتفلسف في ندوةٍ على شاشة التلفاز معرّفاً الوطن بأنَّهُ التعلّق بالمكان. أي تعلّق؟ لعله كان يقصد أن يعلّقوك من حبال المشانق”: هذه الفقرة الواردة في ص31 من الرواية، وضعها أنطون في الغلاف الأخير للرواية، وهو ما يؤكد مقترباتنا في قراءتها كونها روايةَ مكانٍ وهويةٍ وذاكرة.
تمضي الرواية في سرديات عذبة ومريرة في الوقت نفسه، وفق خطين متوازيين، سامي وماضيه في العراق، الذي يستذكره على شكل هذياناتٍ غير مترابطة، وحاضره في وطنه الثاني أميركا، الذي ليس فيه حراكٌ وتأقلٌم مع مكانهِ الجديد، حاضره اقتصر بين الشقة ودار للعجزة، ومن ثمَّ إحساسه الداخلي بخوائه، لأنَّهُ ليس هناك مستقبلٌ مفتوحٌ أمامه.
أمّا عمر، فكان حاضره مليئاً بالحراك، فقد وضع أمامه بكل جدية هدفاً وهو إجراء عمليةٍ في أميركا لمعالجة أذنه المصلومة، وجد عملاً ليلياً في أحد المحال التجارية كـ (نايت فلر) أي ملء أرفف المحل بالبضاعة الجديدة ليلاً بعد إغلاق المحل لأبوابه، ونجح فيه، وبحث عن عملٍ إضافي، ووجد عملاً في نهاية الاسبوع كغاسل صحون. وحينما سَئِمَ من وجوده في ولاية ديترويت، ينتقل إلى نيويورك، ووجد له عملاً في مزرعة ماعز في نيوجرسي يمتلكها رجل يُدعى (غيب) ومعه امرأته وابنه، فضلاً عن ذلك هناك طبيبٌ سوري، بالقرب من منطقته، متخصصٌ في جراحة التجميل. وبالفعل ينجح في زرع الأذن اليمنى لعمر.
انطون هنا يريد القول إنَّ وطن عمر الأصلي، قطع مقابل مواطنته أذنه اليمنى، فيما الوطن الثاني، يزرع أذنه من جديد، لكي يعود إنساناً سويَّاً. كان همُّ عمر أن يبتعد عن العراقيين والعرب، حتى وإن عمل مع الحيوانات، وأن يستأصل ماضيه، فابتكر سيناريو بأنه من بورتوريكو، واسمه (أومار) وليس عمر، ولكنَّ الأمورَ لم تجرِ على ما يُرام، بالنسبة لخلعِ ماضيه القديمِ كليةً، وكأن أنطون يدين مسخ هويّة المغترب مسخاً تاماً.
جعل أنطون سرديات سامي وعمر خطَّين متوازيين في أغلب صفحات الرواية، إلى أن تظهر الحقيقة المرة في النهاية، وهناك تمهيدات لها، منها أن سامي طبيب، وأنّ الذي صلم أذن عمر طبيب أيضاً، ظلَّ مجهولاً إلى أن تظهر نقطة التقاطع بين الخطين المتوازيين للرواية. وتكمن في أنّ سامي أُجبرَ على صلم أذن عمر، شعرَ بالندم، هكذا قال لزوجته، ولكن لا ينفع الندم. إذاً يمكن القول إن حالة خرف سامي تحمل ضمن الأشياء المسكوت عنها صلم أذن عراقيٍ بريءٍ لا لشيء إلا لأنّه هرب من الخدمة العسكريَّة، وكانت الحرب العراقيَّة الإيرانيَّة في أوجها.
كان عمر يعرض بضاعة مزرعتي الماعز والخزامى، من أجبان وزيت الخزامى، فأتت كارمن إليه لتشتري زيت الخزامى لأنَّ سامي يفضله، هنا عمر بدأ يتخلى عن لقبه البورتوريكي، فعرّف كارمن باسمه العراقي، فكانت هي الوسيطة في التعارف بين عمر وسامي، حين أخذت سامي للنزهة خارج مبنى دار رعاية العجزة،. ذهل عمر حين عرّفتْهما ببعض، وحين قالت: الدكتور سامي البدري من العراق:246
إذاً نقطة التقاء سامي وعمر، هي حبُّهما لزهرة الخزامى وعطرها، ومن هنا اختارها أنطون عنواناً للرواية، وهي دعوةٌ مبطنةٌ منه لنسيان الماضي المخزي، وذلك حين يجلبُ عمر باقةَ زهور خزامى مُجفّفة، وبرفقته كارمن ليهديها عمر إلى سامي قائلةً: سامي، هذا عمر عراقيٌّ مثلك، ومن بغداد، يبيع الخزامى التي تحبُّ عطرها: ص251 ، لكنَّ الباقة سقطت في حضن سْامي، ومن ثمَّ على الأرض. في مشهدٍ يضع علامات استفهام أمام القارئ، هل إنَّ نسيانَ الماضي مستحيل، أم أنّ سامي لا يغفر لنفسه ما اقترفه، أم هو مات، مصعوقاً من هول المفاجأة؟.
صدرت الرواية عن منشورات الجمل عام 2023 في 256 صفحة من الحجم المتوسط، ومن الأعمال الأخرى لسنان أنطون، في الشعر؛ ليل واحد في كلّ المدن (2010)، كما في السماء (2018)، في الرواية؛ إعجام (2003)، وحدها شجرة الرمّان (2010)، يا مريم (2012)، فهرس (2016)، في الترجمة؛ خورخي لويس بورخيس، هوامش سيرة (2020).