{اوبنهايمر} في بغداد والحجز لأسابيع

ثقافة 2023/08/07
...

علي حمود الحسن

- 1 -

لا يملك من يشاهد أفلام المخرج البريطاني كريستوفر نولان (53 عاماً)، سوى التخلي عن كل ما عرفه بخصوص "الفرجة"التقليدية، فلا سرد خطياً، أو قصة بينة، ولا لغة سينمائية متعارف عليها، إنما "خبطة" بصرية غامضة فريدة منفذة بطريقة مبتكرة ومبهرة. نولان الذي غالباً ما يكتب أفلامه بنفسه وبتقنيات متطورة،  والتي يصفها بأنها "متاهة" يتشارك في متعة حل شفراتها مع جمهور، يريده أن يعمل عقله لاقتفاء أثر المعنى في هذا التشكيل البصري العجيب، بعيداً عن كسل الفرجة الهوليوودية التي غالباً ما تنتهي بقبلة تعلن نهاية الفيلم، قدم صاحب "فارس الكؤوس" اثني عشر فيلماً معظمها نفذت بميزانيات ضخمة وحققت نجاحاً جماهيراً ونقدياً غير مسبوق إلى حد أن أصبح نولان ظاهرة سينمائية متفردة، آخر هذه الأفلام "أوبنهايمر"(2023) الذي يتناول السيرة الذاتية لعالم الفيزياء الأميركي والألماني الأصل روبرت أوبنهايمر(كيليان مورفي) الذي يطلق عليه "أبو القنبلة الذكية"، إذ قاد فريق من العلماء الأميركيين في مشروع منهاتن النووي من خلال مختبرات "لوس ألاموس" ونجح في اختراع القنبلة الذرية التي تمت تجربتها في صحراء نيو مكسيكو في 16 تموز 1945، ليشهد العالم حدثاً فاصلاً في تاريخ الإنسانية، وبقدر الآمال والسعادة الهستيرية التي غمرت علماء منهاتن وصناع القرار الأميركي، حينما شاهدوا هالة الفطر البرتقالية التي غشت الأبصار، التي ربما ستوقف حرباً وتردع مشعلي الحرائق، إلا أن تساؤلاً عميقاً هز أعماق أوبنهايمر ورفاقه الذريين؛ مفاده: ما المانع أن تكون هذه القنبلة سبباً في نهاية العالم، بعد شهر ألقيت قنبلتان على مدينتي هيروشيما وناكزاي، فأعلنت قيامة العالم، انكسر قلب اوبنهايمر اليهودي المعادي للسامية والمتعاطف مع الشيوعية(بحسب الفيلم)، الذي قال في لحظة تجلٍ حميمية مع عشيقته جين (فلورنس بيو) مقتبساً من كتاب مقدس هندوسي:  "الآن، أصبحت الموت، مدمر العوالم"، هذه الروح الممزقة بين نشوة منجزه العلمي الفريد واحساسه بتأنيب الضمير، حولت حياته إلى هواجس وكوابيس، وذلك تماماً ما ركز عليه كريستوفر نولان، الذي اعتمد فيه وصفته الشهيرة والمتجددة في طريقة السرد المتشظية في كل اتجاهات الزمن، حتى لا يستطيع المشاهد وإن كان فطناً اللحاق بها، موازناً بطريقة فذة بين زمنين؛ الأول كوني رتيب، والثاني نفسي متحول، محققاً ما قاله بول ريكور بأن السرد وحده هو من يجد علاقة بين الزمنين، وكان كريستوفر نولان سارداً بصرياً عبقرياً، فهو ينقلنا من استجواب لجنة الأنشطة غير الأميركية بالكونغرس إلى دراسة أوبنهايمر في الجامعة ونبوغه في الفيزياء، ثم سفره إلى ألمانيا ودراسته الفيزياء هناك، وعودته إلى أميركا والتدريس في جامعاتها ومعاهدها المتخصصة بالفيزياء، إشارات وشفرات تتطافر هنا وهنالك، ومضات متسارعة تضيء جزءًا من السيرة الحزينة والقلقة لأبي القنبلة الذرية موظفاً مونتاجاً خلاقاً وموسيقى تصويرية ومؤثرات صوتية، فضلاً اختياره ممثلين قدموا أداء مبتكراً جديداً بعيداً عن أنماطهم الشخصية. الطريف أن الحصول على تذكرة يستغرق أسبوعاً أو أكثر في سينمات المول في بغداد، ولولا صديقي الجميل مصدق الطاهر لما شاهدته قبل أيام.