في ذكرى الراحلة سعاد محمد خضر
د. معتز عناد غزوان
لاشك أن للثقافة دورها الكبير في تنمية الذوق وتطوير الرؤية الإبداعية للفكر وتحولاته على مر العصور باختلاف الزمان والمكان، فلا حدود لقومية وجنسية الثقافة الإبداعية، مهما كانت وفي أي مكان وزمان، لأنها تبقى متميزة بخصائصها وسماتها المخلصة للثقافة الخالصة، التي تجتاز بنتاجها الإبداعي حدود المكان وتنوع الزمان.
هكذا كانت الراحلة الكبيرة الدكتورة سعاد محمد خضر المبدعة، التي عرفت بعراقيتها الخالصة والمخلصة في تنوير الثقافة العربية ككل والعراقية كجزء مهم من حياتها، على مدار أكثر من نصف قرن من العمل والإنجاز والإبداع.
إنها ابنة الإسكندرية في مصر أرض الكنانة والحضارة وابنة بغداد حاضرة التاريخ الإسلامي وعصره الذهبي، لقد جمعت هذه المبدعة ما بين حضارتين كانتا، ولا تزال صاحبتي الريادة في تطور وتحول الثقافة الإنسانية العالمية جمعاء.
إنها ابنة النيل ودجلة والفرات، إنها القديسة الهادئة بطبيعتها وتواضعها وإنسانيتها، التي ظلت تتميز بها بين أفراد عائلتها وطلبتها على مر السنين.
هذه السنين التي تراوحت ما بين الإيجاب والسلب ما بين الألم والإقصاء ما بين الغربة والحنين، ما بين فقدان الأحبة وذكرياتهم، لا سيما ذكريات الزوج والحبيب والصديق الكبير صاحب الطريق المستقيم في المبادئ والنقاء، إنه المرحوم الدكتور صلاح خالص الأكاديمي الكبير بتاريخه وعطائه الثر، فقد ظلت الدكتورة سعاد محمد خضر الزوجة المخلصة والصادقة ونائبته في رئاسة تحرير مجلة الثقافة العراقية المتميزة بصدقها وإخلاصها للثقافة العراقية الحقيقية البعيدة عن التشويه والكذب والرياء، إنها مجلة الثقافة العراقية الخالصة بصلاحها والسعيدة بسعادها والأصيلة بكتابها المثقفون الحقيقيون من أبناء العراق المخلصين.
تعد الدكتورة سعاد محمد خضر موسوعة ثقافية تحتوي بين طياتها ثقافات متنوعة تمتد من شرق الأرض إلى مغاربها، إنها ثقافة تجلت في قدرتها الكبيرة على الترجمة وقدرتها الواسعة في ميدانها المعرفي، فهي تمتلك قابلية التحدث بأهم لغات العالم الحية، كالانكليزية، والروسية، وتخصصها الدقيق باللغة الفرنسية، إنها الثقافة الغربية التي خرجت من بلاد الشرق.
لقد عانت الدكتورة سعاد محمد خضر من العزلة الكبيرة والإقصاء المتعمد لسنين طوال، وزادت تلك المعاناة، بعد رحيل رفيق دربها وربان سفينتها الدكتور صلاح خالص، برحيل أليم زادها هما، ووقفت بكل كبرياء تقود الثقافة، على الرغم من الضيق الكبير مادياً ومعنوياً، لقد ظلت تحافظ على مبادئها وطريقها السليم بإباء وشموخ وعز، بعد أن عزلت عن طلبتها وأبنائها، الذين تتلمذوا على يدها وتعلموا منها الوفاء والصدق والأمانة العلمية ومحبة الوطن والإخلاص لتاريخه الإنساني، الذي كرست حبه في نفوس طلبتها وتدريسها لهم اللغة الفرنسية وآدابها في جامعة بغداد ولسنين طوال، فضلاً عن تدريسها للغة نفسها في المعهد الثقافي الفرنسي ببغداد ما بين عام 1953 إلى العام 1958، ولها الفضل الكبير في تأسيس القسم الفرنسي بإذاعة بغداد، والإشراف على تحرير الأخبار فيها، وبعد سفرها للتدريس في معهد اللغات الشرقية بجامعة
موسكو، إذ قامت بتأسيس القسم العربي بوكالة (تاس) (انترفاكس اليوم)، وأشرفت على توجيه العاملين والإعلاميين ولاسيما تلامذتها في جامعة موسكو للعمل في هذه الوكالة العريقة، حتى عودتها إلى العراق
عام 1968.
لقد أحيلت الدكتورة سعاد محمد خضر على التقاعد قسراً وبقرار قاس جدا عليها، وعلى مسيرتها العلمية المتفانية بحب العراق وتاريخه الإنساني، فتفرغت بعدها للترجمة والبحث العلمي، الذي تميز بالإبداع والغزارة النوعية، لقد بقيت بنتاجها الثقافي والعلمي على الرغم من التحولات السياسية، التي مر بها العراق، لا سيما فترة الحصار الاقتصادي، الذي أثّر بشكل سلبي على واقع الثقافة العراقية والأكاديمي بشكل خاص.
ولعل ابرز جهد ثقافي كانت تضطلع به هو سعيها لتأسيس مشروع اتحاد المترجمين العرب بمشاركة زملائها في الهيئة الإدارية لجمعية المترجمين العراقيين آنذاك (د.عناد غزوان، د.حكمت علاوي، د.صفاء الجنابي، واثق الدايني، ليث غائب، إقبال أيوب)، وكانت الدكتورة سعاد محمد خضر عضو الهيئة الإدارية للجمعية في دورتين وبالانتخاب، وللأسف لم يكتب لمشروع اتحاد المترجمين العرب النجاح بسبب الأوضاع السياسية المؤلمة عام 1990 وما تبعها من حصار اقتصادي قاهر.
كما كانت الدكتورة سعاد من الأعضاء البارزين في تأسيس كلية المأمون الجامعة المتخصصة في تدريس اللغات العالمية، لا سيما مساهمتها الفاعلة في تأسيس قسم اللغة الفرنسية فيها، وهو من المشاريع العلمية المهمة لجمعية المترجمين العراقيين، ولم يكتب لهذا المشروع النجاح للأسف، وتم إلغاء هذا المشروع الثقافي والعلمي الكبير.
وبعد ألم الحصار واشتداد القهر والحالة المعاشية السيئة، غادرت الدكتورة سعاد أرض الوطن لتحط برحالها في ارض اليمن السعيد، وتعمل أستاذة في جامعة صنعاء لما يقارب 10 سنوات، وبالتحديد ما بين الأعوام 2000 – 2010، إذ عادت إلى أرض الوطن.
من هنا لا بد من مكافأتها لجهودها الكبيرة ومسيرتها العلمية الطويلة، التي استمرت لأكثر من ستة عقود من العلم والمعرفة، أنها أحد أبرز رموز الثقافة العراقية، التي من الواجب الالتفات إليها، وطباعة نتاجها الثقافي واستشارتها في العديد من القضايا العلمية والثقافية في الجامعة والمؤسسات الثقافية، لأنها رمز ثقافي حافظ على مبدايته ورصانته، إنها الشرقية في أصولها والإنسانية في تواضعها الجم، المتألقة في علمها وثقافتها اللغوية، وموسوعيتها في اللغات الغربية وآدابها.
ويمكننا إدراج أهم أعمالها الثقافية البارزة كما يأتي:
الأدب الجزائري المعاصر (1966)، الدولة والقانون (ترجمة عن الروسية) (1969)، المرئي واللامرئي (ترجمة عن الفرنسية) (1986)، حكمة الصين (ترجمة عن الانكليزية) (1996)، كما ترجمت رسالة الدكتور باقر عبد الغني، التي نال عليها الدكتوراه من جامعة باريس (السوربون)، والتي تتحدث عن شخصية الشاعر العربي الأموي (جرير) من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، فضلاً عن ترجمتها قانوني الاستثمار والبنك الإسلامي اليمني من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية، عندما كانت تعمل آنذاك في جامعة صنعاء باليمن.
وقد صدر لها مؤخراً ثلاثة كتب مترجمة في إقليم كردستان العراق وهي:
(اليهود ورؤساؤهم القبليون- ترجمة عن الانكليزية) وكتاب (الإيزيديون -ترجمة عن الفرنسية)، وكتاب (رحلة من ملابار إلى القسطنطينية- ترجمة عن الفرنسية أيضاً).
وقبيل رحيلها الابدي بعام تقريبا كانت قد أنهت ترجمة كتاب مهم جدا عن الاديان والثقافات العالمية، وقد قام وزير الثقافة السابق الدكتور حسن ناظم بزيارتها في دارها بمعية الدكتور عارف الساعدي والاستاذ فلاح العاني وعرض عليها طباعة كتابها الاخير وقد وعد ونفذ بحق.
تجدر الاشارة الى ان الدكتورة سعاد محمد خضر كانت تكتب وتؤلف وتترجم حتى نهاية عمرها، ونشرت العديد من البحوث العلمية الرصينة في مجلات عالمية محكمة في داخل وخارج العراق.
هكذا رحلت سعاد محمد خضر، ودفنت في بلاد الرافدين العراق بلدها الحبيب، الذي ظلت مخلصة له طوال عمرها.