رمزيَّة الرئيس في ذاكرتنا السياسيَّة

آراء 2023/08/07
...

رعد أطياف
تشكلت ذاكرة العراقيين بالاستبداد السياسي منذ عقود، ذلك أن تاريخنا السياسي هو تاريخ أشخاص، وليس مؤسسات فليس من السهل عبور هذه الذاكرة إلا بنموذج يبرهن لهم أن الاستبداد رذيلة سياسية. لكنهم، حتى هذه اللحظة، ما زالوا متمسكين برمزية الرئيس دون غيره، ويقرؤون تاريخهم السياسي بواسطة هذا الأخير.

لذلك قلّما تعثر على فئة اجتماعية تقدّم المؤسسة على الشخص، وإنما هذا الأخير له حصة الأسد، إذ يتم اختزال التاريخ السياسي كله بشخصه.
حين تقوم السلطة التشريعية، بالتضافر مع باقي المؤسسات ذات العلاقة، لصياغة مشروع ما يصب في صالح المواطن، ويدخل حيّز التنفيذ بعد أن يصل إلى السلطة التنفيذية، يكون قد قطع شوطاً طويلاً من التشاور وتبادل الخبرات، والمرور على المؤسسات ذات الصلة بالمشروع.
بكلمة واحدة: تضافرت الكثير من الأجواء والشروط، والعمل المؤسساتي لكي يخرج ذلك المشروع إلى لنور، ثم يأتي المواطن ليهلّل بالمديح والثناء للسلطة التنفيذية فقط! ليس هذا فحسب، بل تُختَزَل السلطة التنفيذية بشخص رئيس الوزراء بوصفه السياسي الوحيد، الذي قام بذلك المشروع.
لذلك قلّما تجد مواطناً يضع في الاعتبار الموازين التي ذكرناها، حتى لو كان لديه ممثلون في البرلمان، فهو لا يعرف سوى شخص واحد اسمه الرئيس.
انعكس هذا الحال، منطقياً، على السلوك القانوني، بحيث لا تجد ثقافة متأصلة تضع القانون فوق كل اعتبار، حيث يميل الكثير من العراقيين على أخذ حقوقهم بأيديهم، أو من خلال العرف العشائري.
ومن جهة السياسة فثمّة شرائح اجتماعية ليست قليلة تميل إلى ما وصفه الراحل هادي العلوي بـ"ثقافة الجثث المُعَلَّقَة"، بمعنى تفضّل تعليق جثث الخارجين عن القانون على أعمدة الكهرباء! لا أحد تسمعه من هذه الشرائح، الغاضبة دوماً، يعطي اعتباراً ملحوظاً لقيمة القانون، نظراً لتاريخ الاستبداد الطويل الذي شكّل ذاكرة العراقيين السياسية، خصوصاً أن هناك انسجاماً منطقياً بين السلوك الاجتماعي والسياسي؛ حيث يدعم أحدهما الآخر من خلال قوة تجذّر الثقافة القبلية.
فيتصرف الناس، ويتمنون، أن ينال الخارج عن القانون القصاص العادل، لكن على طريقة المشانق الشعبية.
ثم لا تجد هذه الشرائح الاجتماعية، التواقّة إلى ثقافة الجثث المعلقة، من حرج للمشاركة في الانتخابات الديمقراطية لاختيار ممثليهم، الذين لا يرتبطون بهم بصلة سوى يوم الانتخابات بوصفه طقساً موسمياً، ذلك أن هؤلاء الناخبين سيتوجهون إلى شخص رئيس الوزراء لإطلاق شكاواهم وتذمّرهم تجاه ما يحصل، وكأنما رئيس الوزراء هو الممثل الوحيد للناخبين، أما السلطة التنفيذية فهي تشكل لحظة عابرة في ذاكرة الناخب العراقي.
فوظيفة الناخب تتجه بوصلتها غالباً نحو قضايا فئوية وحزبية ضيقة.
ويظهر أن الديمقراطية التوافقية جاءت منسجمة كلياً مع أشواق الناخب العراقي، وكلّفتنا تلك الأشواق ثمناً باهظاً كانت نتيجته تشكيلات وزراية مترهلة تُفرض على رئيس الوزراء، الذي لا يحق له اختيار وزرائه، لكن يحق لنا أن نسقط كل صنوف الاخفاقات والفشل السياسي على عاتقه، أما ممثلونا فهم في الحفظ والصون.
والنتيجة كالآتي: تذمّر من فكرة الديمقراطية، والحنين إلى شخص "سبع" يدير البلاد، وشيوع خرافة مفادها بأن العراقيين لا تنفع معهم الديمقراطية، كما لو أن التغيير اجتماعي وليس سياسياً.
حان الوقت ليبدأ التثقيف على فضائل الديمقراطية والعمل المؤسسي، واحترام القانون، ورذائل الاستبداد، وخرافة الرجل الواحد الذي يختزل كل مؤسسات الدولة بشخصه.
إن كانت ثمة أمنية فهي أن تكون الديمقراطية درساً أساسياً يبدأ من المراحل الابتدائية، عسى أن يظهر لنا جيل في المستقبل لا يختزل الدولة بشخصية رئيس السلطة التنفيذية.