محنة التغيير

ثقافة 2023/08/08
...

  علي فائز

“لا بد أن يكون الصوت الذي يصل إلى الأسماع هو صوت أبرز شعرائنا وكتابنا وفنانينا وعلمائنا وأساتذتنا، وحدهم من يمكنهم الالتفاف حول العقبة التي تعيق طريقنا إلى الملايين من المحبطين في كل مكان». هكذا يقول العالم والفيلسوف الأمريكي إريك هوفر (1898 - 1983) في كتابه “محنة التغيير” (الدار الليبرالية 2022، ترجمة شيرين علوش) ثاني أهم كتبه بعد “المؤمن الصادق”، التي تعنى بالحركات الجماهيرية. كما يمكن القول إن الباحث أو المختص في الحركات الجماهيرية، تبقى جهوده قطعة ناقصة في سماء المعرفة ما لم يتخذ هوفر مرجعية أساسية في فهم هذه الحركات وتحولاتها وكوابح التغيير التي تواجهها، خصوصا إذا عرفنا أن هوفر يكتب في مجال علم الاجتماع النفسي السياسي.

لم يترجم لهوفر غير كتاب “المؤمن الصادق”، الذي نال شهرة واسعة وطبعات كثيرة، غير أن كتاب “محنة التغيير”، هو الكتّاب الثاني الذي يعد بحسب هوفر والمهتمين به أهم ما كتب في حياته. يرى هوفر في بداية كتابه أن: “التغيير الجذري هو الذي يمهد الطريق للثورة، إذ يتولد المزاج والطبع الثوريان من خلال الاستفزازات والصعوبات والرغبات والإحباطات المتأصلة في تحقيق التغيير الجذري”.

يقارن هوفر بين البلدان التي تحدث فيها التحولات السياسية والمجتمعية وتتوفر فيها بنى بديلة، وبين التي يحدث فيها التغيير لكنها تطفو في أبدية العدم، إذ بعد تدمير النمط المؤسسي، من خلال التجارب والتشريع والتعليم والتصنيع، وتدمير جميع أساليب الحياة البدائية وانهيار الهياكل المجتمعية القائمة؛ تطفو إلى السطح الحرية الفردية التي تجد بيئتها ومناخها الملائم، أما إن حصل ذلك كله وتُرك الفرد لمواجهة مصيره لوحده دون بيئة يبدو من خلالها الإنجاز أو الاكتساب والعمل المطلق أو تنمية قدراته ومواهبه في متناول اليد، يتحول إلى كيان شديد الانفجار ويحاول تدفئة ذاته المسحوقة من خلال تبني حقيقة مطلقة، أو من خلال ربط نفسه بالأفعال المدهشة لقائد أو هيئة اجتماعية، وهكذا تتكون الأرض الخصبة للتشنجات والاضطرابات التي تهز المجتمع، فهذا بحسب هوفر ثمن صحوة كانت غاصة بالفوضى وأنقاض الماضي حيث الحياة راكدة منهكة وفقيرة للغاية. 

يقول هوفر: “إنّ الحركات المتطرفة تحدث من أفراد محبطين، إذ ينتسب الناس إلى الحركات الثورية لا لتغيير العالم فحسب، بل لإشباع رغبتهم في تغيير أنفسهم، لذلك غالبًا ما يفشلون”.

في فصل المثقف والجماهير، ينظر هوفر إلى المثقف نظرة تشاؤمية ومحبطة ولا يكاد يخلو فصل من فصول كتابه من ضرب مثال عن خيانة المثقف، فالمثقفون عنده إما متحالفين مع من هم في السلطة أو أعضاء من النخبة الحاكمة، حتى عندما يذهب المثقف إلى الجماهير فهو يبحث عن الثقل ودور القيادة على عكس رجال الأفعال، وحينما ينجح المثقف (المناضل) في إقامة نظام اجتماعي يتم فيه اشباع شغفه بمكانة عليا ومنفعة اجتماعية على نحوٍ كامل، تصبح نظرته إلى الجماهير مظلمة معادية للاستقلال الفردي، “فلو امتلك لوثر وكالفن أدوات الإكراه المخيفة عند هتلر وستالين لكان بإمكانهما إعادة الفرد الناشئ إلى الحضيرة الجماعية، وكانا سيخنقان الغرب الجديد عند ولادته». وهكذا يقدم لنا التاريخ مثالًا واضحًا على التناقض بين موقف المثقف أثناء الصراع ودوره بمجرد الفوز بالمعركة، أو الحظوة بمنصب أو مكانة ما يحققها لها النظام الذي يسعى في محاربته!

ويكاد النقد والتقريع اللذان يوجههما هوفر إلى المثقف يشبهان النقد الذي يوجهه إلى الثوري الزائف الذي ينتظر فرصته وينزع جلده القديم دون خجل إذ “يكون الثوري غالبًا، مهما كانت قضيته المقدسة وأيديولوجيته، رجلًا قادرًا على استهلاك شغفه في عمل هادف جدير بالاحترام، قد يقضي معظم حياته في الحديث والجدل، لكن بمجرد أن يحصل على فرصته يكشف عن نفسه على أنه رجل أعمال 

محترف”.

وأخيرًا يشير هوفر إلى موضوع المجتمعات الأكثر حرية ودور السلطة في فيها لتحويل الرجال إلى آلات ذاتية التشغيل ومسيطر عليها، فالسلطة عند هوفر في كل مكان وأي مجتمع هدفها الرئيس هو القضاء على الفرد المستقل أو تحييده عرفوا بذلك أم لم يعرفوا (المفكر والمالك والعامل، والمستهلك والناخب المستقل) كل أداة يستخدمونها تستهدف تحويل الانسان إلى “أداة متحركة” ويمكن التلاعب بها، وهذا هو تعريف أرسطو للعبد.