عمارة المصليات في بلاد الرافدين
مهدي علي ازبيّن
بين أيدينا (عمارة المصليات في بلاد الرافدين)، وهو إصدار علمي مهم، يتطرق فيه الدكتور كرار فوزي الماجدي إلى موضوعة عقائد سكان بلاد الرافدين، وما تقتضيه أماكن عباداتهم من اشتراطات العمارة الأولية، مستنداً إلى ما جمعه من معلومات مستخلصة من الوثائق التي توصلت إليها عمليات البحث والتنقيب في أرض الرافدين.
وقد جاء الكتاب في ثلاثمئة وسبع وأربعين صفحة، أغناها الباحث بجداول ومرتسمات وصور عن مواقع المصليات وأنواعها وتواريخها مع ثبت بالمصادر العربية والأجنبية.
إن أهمية الكتاب تتجلى في محاولة التعرف على التفاصيل المعمارية المتعلقة بهذا النوع من المباني الدينية التي شاعت في معظم المدن الرئيسة والثانوية في بلاد الرافدين، وشهدت هذه المباني اهتمام الملوك والحكام والأفراد، كونها مقرا للآلهة وإقامة الطقوس وبعض الاحتفالات الدينية. قسم الباحث دراسته على أربعة فصول سبقها بتمهيد ومقدمة اختتمها باستنتاجات وملاحق.
يرد في مقدمة الكتاب أن العمارة في بلاد الرافدين مثلت أنموذجاً مميزاً للأصالة الرافدينية، فقد جاءت بمخططات وعناصر عمارية متنوعة ابتكرها سكان بلاد الرافدين، وتعد المصليات واحدا من نماذج العمارة الدينية في حضارة وادي الرافدين، إذ نالت مكانة متميزة في فكر سكان البلاد.. وقد تعددت أنواعها واختلفت أشكالها، وبينت الكتابات المسمارية والتنقيبات الآثارية نوعين من المصليات: أحدهما المصليات المستقلة التي تكون قائمة بذاتها، والمصليات الملحقة بالمباني سواء كانت المعابد أو القصور والمباني العامة.
تعد المصليات والمعابد والزقورات من أهم أماكن العبادة في بلاد الرافدين، وقد عرفت بأنها بيوت تقام لسكن الآلهة وراحتها، وتوضع في داخلها تماثيل الآلهة ورموزها، وتقام فيها الشعائر والطقوس الدينية، ويقف على إدارتها الكهنة، ويقيم فيها المتعبدون شعائرهم، وقد عدت المصليات في حضارة وادي الرافدين الجذور الأولى لظهور المعابد وتطورها عمرانياً وإدارياً واقتصادياً.
وقد ذكر الباحث مصطلحات عمرانية تتعلق بمباني المصليات:
المعبد: اسم مكان وجمعه معابد ويطلق بعض الباحثين تسمية المعبد الصغير على المصليات، تقام فيه طقوس العبادة وإبداء الاحترام لتماثيل الآلهة ورموزها.
الكوة: هي خرق، ثلمة، فتحة، نافذة، حنية داخل الجدار، شاع ظهورها في المصليات والمعابد، تكون هذه الكوة في ركن الشارع أو الساحة، وقد عدت من الابتكارات المعمارية في حضارة وادي الرافدين، ويعود أول ظهور لها إلى الألف السادس قبل الميلاد.
الدكة: وهي مقعد مستطيل من الخشب يستخدم للجلوس، وتكون بشكل بارز من أعلى الجزء المربع من قاعدة العمود، وتعمل كقاعدة لتمثال أو زهرية أو عمود، وتعد دكة الإله عنصراً معمارياً مميزاً للمعابد والمصليات، وهي تمثل مقام وجود الإله أو موضع تمثاله عليها، وأمامها يمثل المتعبدون وتقام الطقوس الدينية، وهي تقع في أقدس مكان في تلك المباني، وهي ما تعرف بالخلوة، وكانت تتوسط أحد جدران الخلوة، أما وجودها في البيوت فكان غالباً في زوايا الغرف أو الساحات، وقد زينت تلك الدكاك بزخارف متنوعة، وحظيت باهتمام الملوك وعامة الشعب.
كما تستعمل لوضع القرابين عليها، وقد عرفت بدكة القرابين، تقدم عليها القرابين والنذور والهدايا للآلهة، وهي تمثل محور الطقوس الدينية، وكانت تصنع من الطين أو الحجر أو اللبن والآجر أو الخشب، وفي بعض الأحيان تزين تلك الدكاك برموز الآلهة أو رسوم ومشاهد متنوعة، وهي تختلف في ارتفاعها وأشكالها، فقد تكون مربعة أو مستطيلة، وأحيانا تكون وسط الخلوة، أو في ساحة المبنى الديني أو خارجه.
المذبح: وهو المكان الذي توضع فيه القرابين وتنحر الأضاحي، وقد اختلفت أحجامها وأشكالها، كما ارتبطت تسمية المذبح ارتباطاً وثيقاً بعمارة الكنائس التي احتوت هي الأخرى على منصة (منضدة) داخل الكنيسة يقوم الكاهن بنحر الذبيحة عليها، ولذلك سميت تلك المنصة بالمذبح.
المزار: اسم مكان وهو موضع الزيارة، وهو خزانة أو قفص أو صندوق يضم عظام قديس، أو قبر شخص أو مكان حدوث معجزة.
المصلى: واحدة من العمائر الدينية التي عرفت في بلاد الرافدين، منها ما يلحق بالمباني كالمعابد والقصور، وهناك المصليات المنفردة أو المستقلة التي تكون قائمة بذاتها.
ومع تطور المدن وزيادة السكان تشعبت المهام المنوطة بالمصلى، وتحول إلى مؤسسة مركزية تدير شؤون الحياة الدينية والدنيوية؛ الأمر الذي اقتضى زيادة في مساحته ومرافقه العمارية، ثم صارت تلك المصليات معابد امتازت بمساحات كبيرة وتعددت مرافقها العمارية، وقد يكون المصلى غرفة واحدة تحتوي على دكة إله أو كوة أو كليهما ومنصة لتقديم القرابين، وهناك مصلى يضم في مخططه غرفة مدخل وساحة وغرف الخلوة وغرفاً أخرى لسكن الكهنة أو الطبخ والخزن، أما مصليات البيوت فهي عبارة عن غرفة أو ساحة مكشوفة تحتوي على دكة إله أو كوة، واحتوى بعضها على موقد صغير في وسطها.
وبعد هذه البحث المتشعب في الرقم الطينية والاكتشافات الآثارية وما وثقته الكتابات المكتشفة خلص الباحث إلى استنتاجات منها:
أن المصليات مبانٍ دينية اتسمت بصغر مساحتها وقلة مرافقها المعمارية، تجري فيها العبادات والطقوس الدينية فقط، ولها صفات ومسميات عديدة منها المصلى الدائمي أو الأبدي، الجميل، الكبير، الصغير، المقدس، السامي الوقور، النبيل.
شيدها الملوك وتفاخروا في تشييدها وتجديدها، كما ضمت كهنة وعاملين لتنظيم شؤونها وتلبية احتياجاتها مع كاتب خاص، استخدمت في بنائها مواد بنائية كالجص والحجر، وكذلك اللبن واستعمل الطين كمادة رابطة، وقد فرشت أرضيات بعضها بالآجر والقار.
كانت بداياتها غرفة واحدة، وتطورت في عصر فجر السلالات لتشمل غرفتين، وفي العصر البابلي صارت تتألف من خلوة وتلحق بها أحياناً غرفة صغيرة أو أكثر.
تفاوتت المصليات في مساحتها ومرافقها المعمارية، وقد كانت زوايا بعض المصليات تتجه نحو الجهات الأربع الرئيسة، وبعضها الآخر تتجه أضلاعه نحو الجهات الأربع.
شغلت المصليات المستقلة مواضع متميزة في تخطيط المدن، فقد كانت تقام في مراكز المدن بالقرب من المعابد الرئيسة أو المباني الإدارية، وتضمنت في الغالب مدخلاً واحداً يؤدي إلى الخلوة التي تحتوي على دكة أو كوة الإله بمحور مستقيم أو منكسر، وقد أقيمت بعض المصليات على مصطبة امتازت بارتفاع أرضية الخلوة..
زينت واجهاتها الخارجية بالطلعات والدخلات، ومداخلها الخارجية في بعض الأحيان بأبراج، وغالباً ما يزين بدخلات ثنائية أو ثلاثية على الجانبين أو دعامات أو بدخلات أحادية أو ثنائية.
احتوى أغلبها على دكة الإله أو كوة لوضع تمثال الإله ومواقد لحرق البخور، كما ضم بعضها بئراً، وبعضها مزود بأنابيب من أجل تصريف المياه وكانت بعض المصليات يرقى إليها بسلم من درجات عدة.
جمعت في تصميمها بين المحور المستقيم والمنكسر، ومخططها عبارة عن غرفة مستطيلة الشكل طولية أو مستعرضة.
وتقع مصليات القصور ضمن المخطط العام للقصور وامتازت بفخامتها واستقامة جدرانها باتجاه زواياها أو أضلاعها نحو الجهات الأربع بحسب اتجاه أضلاع وزوايا القصر الملحقة به، وقد كان مخططها يشبه مخطط البيت، قوامه مساحة وسطية تحيط بها الغرف، وكانت إحدى هذه الغرف هي خلوة المصلى.
تمتاز مصليات المباني الإدارية أو العامة بصغر مساحتها التي كانت في الغالب مربعة أو مستطيلة الشكل، وجمعت بين المحور المستقيم والمنكسر، كما ضمت دكة إله في إحدى زواياها، وبعضها احتوى على كوة في منتصف الجدار البعيد عن المدخل كما يضم أحياناً موقداً لحرق البخور.
إن تشييد الملوك والناس للمصليات بدلاً من المعابد يرجع لأسباب أهمها: اختصار الوقت، وحصر النشاطات التي تجري فيها على العبادات، وكذلك لتقليل النفقات، والمداومة على عبادة الآلهة.
.......................
• عمارة المصليات في بلاد الرافدين، الدكتور: كرار فوزي الماجدي، بيت الكتاب السومري، بغداد، 2022م.