سرديّة المَقتل والسَّارد المعاديّ
د. نادية هناوي
تعدُّ سرديَّـة كتاب ( مقتل الحسين ) لأبي مخنف أمثولة فنية ذات محتوى بطولي ومبنى تراجيدي وفيها تتجلى ظاهرة انزواء المؤلف واحتجابه عن نصه، تاركا النص وحده أمام المتلقي، نائيا بنفسه عن أي منظور قد يعارض السلطة أو يتضاد مع توجهاتها. وهو ما سوف تعرفه الكتابة السردية في الربع الأول من القرن العشرين في ما سمي بوجهة النظر ومن بعد ذلك ستعرف الرواية متعددة الأصوات التي بها انتقلت الكتابة السردية من مرحلة كلاسيكية كان فيها صوت السارد كلي العلم هو المهيمن على المسرودات بوجهة نظر واحدة، لتدخل السردية إلى مرحلة حداثية تزول فيها هيمنة الصوت الأحادي للسارد كلي العلم لتتوزع مفتتة في أصوات لكل صوت وجهة نظر مختلفة إزاء مسرود واحد. ومن المعروف أن تناول الحدث التاريخي من منظورات متعددة، يتطلب استعمال تقانات معينة من قبيل التغريب والحلم والقرين والمفارقة والفنتازيا والديالوج والمونولوج، فضلا عما يقتضيه ذلك كله من تغير في وظائف الساردين وأنواعهم.
ولأن الفعل الملحمي فعل موضوعي يتجسد بضمير الغياب؛ فإن الفعل التراجيدي فعل ذاتي يتجسد بضمير المتكلم المفرد أو المتكلم المجموع، ولا يخفى ما يؤديه الحوار من دور مهم في إظهار البعد الدرامي. والمؤرخ في كل ذلك مستقل، تقتصر مهمته على الإسناد للخبر المروي بوصفه ناقلا للحدث ومسجلا له حسب، مستعملا ـ على طريقة الرواة الثقات ـ الأفعال الإخبارية التقريرية التي تستعمل عادة في رواية الأخبار والأحاديث والحكايات، لكن استقلاله ليس كليا، فهو غير مفصول تماما عن مروياته، مؤديا بذلك الدور نفسه الذي سيؤديه بعد عدة قرون مؤرخو السرديات الدينية والمذهبية.
وإذا كان أبو مخنف هو المؤلف المنزوي الذي نأى بنفسه خارج السرد، فإن الداخل السردي سيمثله سراد يتعددون تبعا لوجهات النظر التي عنها تصدر الرواية، كأن تكون وجهة النظر موالية أو معادية أو مراقبة أو محايدة. ويرافق هذا التنوع في وجهات النظر احتدام يضفي على تراجيديا الواقعة مزيدا من الاشتداد والاحتراب، إذ يريد كل منظور أن يثبت صدق الأحدوثة التمثيلية التي تتضمن فعلا وزمانا ومكانا وليست مجرد أمثولة إخبارية.
وليس في اختلاف السراد دليل على عدم المسؤولية التاريخية، لأن المؤرخ لا يأتي وهو غير محمل بقيم ولا ممتلك تصورات، ومسؤوليته تكمن في أن يبقى قلمه موضوعيا ومعياريا، وهو يحايث بين الساردين، لكن هذا التحايث أيضا سيفترض بدهيا وجود المؤرخ الذي هو سارد مستقل يرافق ساردين آخرين، ينقلون عن مسروداتهم الأخبار والأحداث، وسنخصص القول في واحد من هؤلاء السراد، وهو “السارد المعادي” الذي يمارس دور المناهض للشخصية البطلة وكذلك الشخصيات المنضوية في صفها، يحكي منطلقا من وجهة نظر أيديولوجية تعادي البطل. ومن أمثلة المعاداة استباق تراجيديا المقتل برؤية تنبئ بأن خروج الحسين إلى الكوفة سيكون وبالا عليه، كما في مشهد مصرع الظبي على يد الصياد ومسلم بن عقيل يهم بشرب الماء قاصدا الذهاب إلى الكوفة وقد استشعر مسلم من هذه المفارقة أمرا مأساويا ( مر بماء لطي فنزل بهم ثم ارتحل منه فإذا رجل يرمي الصيد فنظر إليه قد رمى ظبيا حين أشرف له فصرعه، فقال مسلم : يقتل عدونا إن شاء الله) .
ولا يخفى أن توظيف المفارقة في السرد التاريخي، يدعم وجهة النظر الأيديولوجية التي تريد إثبات أن ما يسرد هو ما كان قد وقع بالفعل، وهذا ملمح استعاري غالبا ما تنطوي عليه استرجاعية الكتابة التاريخية. إذ بدون الاستعارة ( لا تكون هناك ذكريات حقيقية وبدون المجاز لا يكون هناك ربط بين الذكريات ولا تكون هناك قصة ولا رواية).
وقد يستهين السارد المعادي بسمات مسروده وقدراته فلا يقيم اعتبارا لأرومته ولا يعنيه أنه سليل أسرة رفيعة، كما لا يكترث لمقام جليل ينتمي إليه أهل بيته، مثال ذلك وصف حال مسلم والناس يتفرقون عنه، وقد وجّه السارد سرده توجيها أيديولوجيا فيه مفارقة صادمة ( فلما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة ثم خرج من الباب وليس معه إنسان والتفت فإذا هو لا يحس أحدا يدله على الطريق ولا يدله على منزل ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو).
فالسارد المعادي مأمور بمعاداة البطل، مجبرا على أداء ذلك الأمر، ونفسه تنازعه التراجع والخذلان غير منكرة لكرامات الحسين بل مبالية بمكانته الاعتبارية ومنزلته الروحية بين الناس، كما في هذا المقطع السردي الذي ينقله السارد المعادي عن حال واحد ممن عادى الحسين في عطشه ومنعه من الوصول إلى النهر (قال حميد بن مسلم: والله لعدته بعد ذلك في مرضه فوالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأيته يشرب حتى بغر ثم تقيأ ثم يعود فيشرب حتى يبغر فما يروى فما زال ذلك دأبه حتى لفظ غصته يعني نفسه).
وإذا ما أدى السارد المعادي دور الشخصية التي تشترك في قتال البطل مستعملا ضمير المتكلم، فإنه يقفل نادما طالبا المغفرة من ربه، كما حصل لمسروق الذي صمم على أن يتوب بعدما رأى ما حصل لابن حوزة ( لقد رأيت من أصل هذا البيت شيئا لا أقاتلهم أبدا)، كما اعترى الندم والاستغفار وتغير لون وجه الرجل من بني أبان بن دارم ( إني قتلت رجلا بكربلاء وسيما جسيما بين عينيه أثر السجود فما بت ليلة منذ قتلته إلى الآن إلا وقد جاءني في النوم وأخذ بتلابيبي وقادني إلى جهنم فيدفعني فيها فأظل أصيح فلا يبقى أحد في الحي إلا ويسمع صياحي)، والمقتول هو العباس بن علي بن أبي طالب.
وقد افترض سعيد الغانمي وجود راو تواب تخلَّص به أبو مخنف من مفارقة عدم وجود الشهود العدول الذين سقطوا شهداء جميعا وهم الحسين وأهله وأتباعه، ووجود شهود مزورين هم الجيش الأموي الذين لا يمكن الاطمئنان لمروياتهم، إما لمشاركتهم في القتال أو لإخلاصهم لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويشرح عمل هذا الراوي كالآتي ( يتولى راو تواب وصف جزءا من المعركة في مكان ما ثم ينسحب ليتولى راوٍ آخر وصف جزء آخر منها. ولذلك يتناوب الرواة التوابون في مقتل أبي مخنف).
ونجد أن هذا الرأي ينطوي على إشكالية والسبب أن السارد سيرتبط بوجهة نظر واحدة هي أيديولوجية، والمعروف أن الصياغة السردية للنص التاريخي تصنع له منظورات متعددة، ومن ثم تصبح مسألة توبة الراوي في الأساس تمظهرا من تمظهرات السارد المعادي الذي إذا مارس دور الشخصية المعتدية أخذه الندم فانكفأ يطلب التوبة، كما في حالة الحر بن يزيد وهو يأتي إلى الحسين ليعلن انضمامه إليه وذلك بعد أن أخذه الخوف وخيّر نفسه بين الجنة والنار، ومع انكفائه تنكفئ وجهة النظر الأيديولوجية التي ستعزز بشكل غير مقصود وجهة النظر الأيديولوجية للسارد الموالي.
وهنا نتساءل؛ إذا كانت وجهة نظر السارد المعادي أيديولوجية، فهل يمكن أن تتماثل مع وجهة نظر سارد موال؟! وما أثر تناوبهما في بناء الحادثة التاريخية؟.
قد يتماثل هذان الساردان عند تدخلهما في التقديم للشخصية كاشفين عن بعض ماضيها باستعمالهما ضمير الغائب، كأن يقول: (كان يقبض أموالهم ويشتري لهم السلاح وكان به بصيرا وكان من فرسان العرب)، وكذلك يتدخل السارد في هذين المقطعين (إني لا أحب أن يقتل في داري، كأنه استقبح ذلك)، أو قوله: (وكتب إليه في صحيفة كأنها أذن فأرة ).
أما تناوبُ هذين الساردين فإنه يسهم لا في تعدد الأصوات السردية للرواية الواحدة وإنما أيضا في تعزيز إحدى وجهتي النظر الأيديولوجية الموالية أو المعادية، وإذا لم تكن وجهات النظر متنوعة متفاوتة المراتب بل تقدم كأصوات أيديولوجية متساوية في الأساس فسيكون سردا متعدد الأصوات بوليفونيا، ونذكر من تعدد وجهات النظر، ما حصل لعبد الله بن حوزة، فالرواية الأولى تشير إلى أن الحسين دعا عليه فأخذته الفرس فوقع وعلقت رجله بالركاب؛ ( قال له حسين ما تشاء؟ قال: أبشر بالنار، قال: كلا إني أقدم على رب رحيم وشفيع مطاع، من هذا؟ قال له أصحابه: هذا ابن حوزة: قال: رب حزه إلى النار)، وفي الرواية الثانية نجد أن اضطراب الفرس في جدول هو السبب في وقوعه؛ ( فاضطرب فرسه في جدول فوقع فيه وتعلقت رجله ووقع رأسه في الأرض ونفر الفرس فأخذه يمر به فيضرب برأسه كل حجر وكل شجر حتى مات)، وفي الرواية الثالثة نشعر أن مأساوية ما حصل كانت مفبركة بقول السارد ( زعم)، ( فزعم لي أن عبد الله بن حوزة حين وقع فرسه بقيت رجله اليسرى في الركاب وارتفعت اليمنى فطارت وعدا به فرسه يضرب برأسه كل حجر وأصل شجرة حتى مات).