د. أحمد جارالله ياسين
تؤدي شهرة الفنان دوراً كبيراً في تسويق نتاجه الفني وتحديد قيمته الماديَّة، وبغض النظر عن المستوى الفني المختلف نسبيَّاً بين نتاج وآخر، إذ إنّ من يقتني هذا النتاج سيبحث عن توقيع الفنان قبل أن يبحث عن قيمة العناصر الفنيَّة للوحة والأسلوب الذي تشكلت فيه، وبناء الاسم الفني في السوق الفنيَّة ليس أمراً سهلاً، إذ إنّه أحيانا يرتبط بأسباب لا علاقة لها مطلقاً بالفن، فقد تكون شهرته لمواقف سياسيَّة معينة، أو لمواقف اجتماعيّة جريئة طرحها في بيئته، فضلاً عن أسباب أخرى لها صلة بقدم الفنان أو انتمائه إلى مرحلة معينة تاريخيّة من الأجيال الفنيَّة.
وعلى سبيل المثال فإنَّ أعمال الفنان جواد سليم ذات مكانة مرموقة في سوق الاقتناء على ندرة الحصول عليها، لأنّها تتمتع بقيم فنيَّة حداثيَّة عالية تمثل مرحلة الريادة التشكيليَّة الحديثة في العراق والوطن العربي، فضلاً عن تمتعها بخواص جذابة أخرى لها صلة بشخصيَّة جواد سليم نفسه الذي كان نحاتاً كبيراً أنجز أشهر نصب في العراق وهو (نصب الحريَّة)، فضلا عن كونه موسيقيّاً، وكثيراً ما عالج الموضوعات الاجتماعيّة المحليَّة الحسّاسة في بيئته العراقيَّة برؤية حداثيَّة من حيث الأسلوب التشكيلي كما في لوحته مثلا (السيدة وابن البستاني)* التي تطرح عبر التشكيل موضوعة الفوارق الطبقيَّة في المجتمع العراقي في الخمسينات من القرن العشرين.
أما سيرة الفنان وحياته المأساوية فقد تكون دافعاً للتعاطف معه، وعلى سبيل المثال لعبت سيرة فان كوخ المأساويَّة التي انتهت بانتحاره دوراً كبيراً في الترويج للوحاته التي لا شكَّ في امتلاكها قيمة فنيَّة عالية كونها تمثل مرحلة مهمة من مراحل التاريخ الفني للرسم في أسلوبه الانطباعي التعبيري.
وتلك السيرة أصبحت مادة أدبيَّة لأكثر من فيلم تناولها وأسهم بنحو غير مباشر أيضا في تعاطف الجمهور معها، ومن ثمَّ الميل لمشاهدة لوحاته أو اقتنائها لا سيما أنّ كثيراً من جوانب تلك السيرة ومشاهدها تشكل بفرشاة الفنان نفسه في تلك اللوحات، التي تجذب اليوم الملايين لرؤيتها في المتاحف العالميَّة.
لا سيما أنّه كـان فناناً غزير الإنتاج، وبعض لوحاته الشهيرة اقترنت بمواقف مهمة من حياته الدراميَّة، فلوحـــــــة مثل (غربان فوق حقول القمح) ارتبطت بالمكان نفسه (حقول القمح في جنوب فرنسا) الذي أطلق فيه على نفسه النار، وكـذلك لوحــته الشخصيَّة (البورتريه) التي رسمها لنفسه وقد غطت أذنه الضمادات التي ارتبطت بحادثة قطع أذنه وإهدائها إلى إحدى النساء قبل مدة من انتحاره.
وثمة أمرٌ مهمٌّ جدّاً يخص الجانب الشخصي من الفنان، عـــندما يتحول إلى رمــــز وطني، ما إن يُذكر اسمه حتى يذكر اسم البلاد معه، وهذا ما يشكّل دافعاً آخر للتعاطف الشعبي معه، يدفع الجمهور إلى اقتناء أعماله أو نسخٍ منها أو أي شيء يخص سيرته، بل إنَّ بعضهم تتحول ممتلكاته (منزله، مرسمه، ملابسه، حاجياته الشخصيّة، أدواته الفنيّة....) إلى بضاعة استثمارية ناجحة تجذب إليها الزوار وهواة الاقتناء والمستثمرين والمعجبين، وتدرُّ أرباحاً خياليَّة على الجهات المالكة لها.
وهكذا ينتقل فعل الاقتناء من العمل الفني إلى المتعلقات السيريَّة بكل أشكالها الصغيرة والكبيرة الخاصة بالفنان نفسه التي تعرضها أحيانا المزادات الفنيَّة بأغلى الأسعار.
ومثل فان كوخ أيضا لعبت الجوانب السيريَّة من حياة الرسام السريالي سلفادور دالي دوراً كبيراً في دفع لوحاته إلى أعلى المراتب في السوق الفنيَّة، فغرابة هذا الفنان وتصرفاته غير الطبيعيَّة، ومظهره الشخصي العجيب، كلها أمور أسهمت في ارتفاع عدد الزبائن الراغبين باقتناء لوحاته لغرابتها المرتبطة بشخصيته، والتي لم ينظر إليها الجمهور في يوم ما مفصولة عن تلك الشخصيَّة الاستفزازيَّة للآخرين بسلوكها ومظهرها وتصريحاتها.
وكثيراً ما يميل المشاهير إلى الدخول في عالم الاقتناء هواة أو مستثمرين، لأنَّهم يدركون أن ما يقتنونه من أعمال فنيَّة سيكون مزدوج الأهمية، لأنَّه أولاً سيحمل قيمة بنفسه لا سيما إن كان لرسّام مشهور، وثانياً لأنَّ جانباً من شهرة المقتني سيرافقهم أيضا فــهم بذلك يضربون عصفورين شهيرين بحجر واحد، هو حجر الاقتناء.
إنَّ مبدعين أجانب أمثال بيكاسو وسلفادور دالي أو عرباً أمثال فاتح المدرّس ومحمود سعيد وفائق حسن وغيرهم نالوا الشهرة في حياتهم وبيعت أعمالهم الفنيَّة بأسعار عالية جداً وهم على قيد الحياة، واستمرت تلك الشهرة وازدادت بعد رحيلهم ومعها ازدادت أسعار أعمالهم أيضا، غير أن من المفارقة أن يعيش بعض الفنانين في الظل طوال حياتهم ولا يعرفون الشهرة هم وأعمالهم إلا بعد مماتهم، فلا يتمتعون بالقيمة الماديّة التي خصصت لاقتناء أعمالهم، كما حصل مثلا مع فان كوخ وآخرين، وفي ذلك الأمر مفارقة كبيرة جدّاً.