مكتباتنا أرشيف ذكرياتنا
د. عبد الجبار الرفاعي
كل كتاب في المكتبة يحكي قصة ويؤرّخ لمناسبة في حياة القارئِ والكاتب، حين أتناول كتابا بعد سنوات طويلة من اقتنائه تأتي معه سلة ذكريات وحكايات. أكثرُ المرات أتذكرُ الشخصَ الذي ابتعت منه الكتاب، والمكتبة والمعرض والمدينة، وربما تاريخ الشراء والسعر أيضا. إن كان الكتابُ هديَّة من عزيز وموشى بتوقيعه، تظل بصمته ضوءا لا تمحوه الأيام بعد رحيله من الدنيا. يعرف من يعيش في فضاء الكتب ما تتحدث إليه لوحات أغلفتها وألوانها وأشكالها، وما تحكيه خطوط عناوينها، وإخراجُ صفحاتها وحروف كلماتها، وما تبثه روائحها ونكهة أوراقها. المولعون بالكتب يشعرون بالهدوء والأنس لحظة تحدثهم وينصتون إليها بعيدا عن أي شيء سواها.
المكتبةُ متحفٌ يكتنزُ أثمنَ ما يمتلكه الكاتبُ بحياته. نشأت أوّلُ مكتبةٍ لديَّ بتراكم كرّاساتٍ مستلّة من ألف ليلة وليلة، مطبوعةٍ على ورقِ جرائد رخيص. أخذتُ أذنًا من أهلي باستعمال حقيبةٍ معدنية صغيرة أودع فيها تلك الكراسات، أعود إليها لأستأنف مطالعتَها باستمرار. حدث تزويدٌ لهذه المجموعة عندما انتقلتُ إلى الشطرة، فبدأت تتراكم شهريًا أعدادُ مجلة العربي، مضافًا إلى بعض الكتب والكتيّبات والمطبوعات الحكومية بأسعار تشجيعيّة.
في الصف الخامس الثانوي امتلأت الحقيبةُ المعدنية الصغيرة، فأهدتني والدتي صندوقًا خشبيًا كبيرًا، أفرغتُ محتوياتِه اليسيرة من ثيابٍ قديمة وأشياءَ بسيطة في صندوق أكبر، رافقها ذلك الصندوقُ منذ أيام زواجهما الاولى هي وأبي. ليس هناك أثاثٌ للزواج غير هذا الصندوق في حياة الآباء، هذا كلُّ أثاثِ زواج سكان «الصرائف»(1) ذلك الزمان. الكتب القديمة المكدّسة في الصندوق تشبّعت بدخان النار الموقدةِ داخل الصريفة المغلقة بلا نوافذ في الشتاء، بنحو تبدّل لونُ أوراقها فصار قاتمًا.
بعد انتقالي للدراسة ببغداد سنة 1973، بدأ تراكمُ الكتب يتنامى ويضيق معه فضاءُ الصندوق بالكتب المضافة. لا دروس لديَّ يوم الخميس، مقرّ إقامتي في السكن الطلابي بمنطقة أبو غريب بضواحي بغداد ذلك الزمان، أذهب بعد الإفطار صباحًا إلى مكتباتِ التحرير في شارع السعدون. أكرّر هذه الجولة أسبوعيًا، لا أترك مكتبةً أراها، في كلّ مكتبةٍ أزورها أمكث طويلًا، أفتّش عن كتابٍ لا أدري ما هو، لا أعرفه ولا أعرف مؤلّفَه! أقرأ عنوانات الكتب وكأني تائه، أكتشف في رحلة التيه الممتعة بعضَ الكتب الثمينة، تعرّفت على مؤلفين لم أسمع عنهم من قبل. بعد هذه السياحة في مكتبات التحرير، أتّجهُ للمركز الثقافي السوفياتي قرب فندق السفير أول شارع أبو نواس ببغداد، يعرض المركزُ مطبوعاتٍ عربية دعائية مجانًا.
في تلك السنوات كنت أزورُ معرضَ بغداد الدولي التجاري «ليس معرضًا للكتاب»، أجنحةُ الدول في المعرض تعرض صناعاتِها ومنتجاتها، الجناح الكوري الشمالي هو الوحيد الذي ينشغل بتوزيعِ أكداسٍ لكتب بحجم ٍكبير بالعربية مجانًا، مطبوعةٍ بأفخر أنواعِ الورق والأغلفة. تحمل الأغلفةُ صورةَ زعيمها كيم إيل سونغ جد حاكم كوريا الشمالية اليوم. بعد قراءة المقدمة والاطلاع على محتويات الكتاب وتقليبِ صفحاته، لا تستهويني لغتُه، ولا أتفاعل ومقولاتِه، أمقت استبدادَه واستعبادَه لشعبه.
في حوزة النجف كنتُ أحضر مزادَ الكتب الذي يقيمه محمد كاظم الكتبي صاحبُ المكتبة الحيدرية صباحَ يوم الجمعة، مزادُ الكتب يستحثّ عشّاقَ الكتاب للحضور، لا أشتري إلا قليلًا جدًا مما يتنافس عليه المشترون، وإن كنتُ أتلهّف لاقتناء كتبٍ تضيق قدرتي المالية عن ثمنها. يجلب طلابُ الحوزة كتبًا يضطرون لبيعها لضروراتٍ معيشية ولو كانوا محتاجين في دراستهم إليها، أو أنها فائضة عن الحاجة. بعضُ الورثة يتخلّصون عاجلًا من مكتبات الآباء فيبادرون لعرضِها في المزاد، أو طردِها بطريقةٍ مهينة من مأواها. نقل لي أحدُ الأصدقاء واقعةً مأساوية لمصير مكتبة قيِّمة لأحد تجار بغداد بداية القرن الماضي، يقول: كان هذا التاجرُ من عشّاق الكتاب، لديه خبرةٌ جيدة بالكتب والمؤلفين، يقتني المطبوعاتِ والمخطوطاتِ النفيسة، وكان ضنينًا بالإعارة، لا يسمحُ أن يخرجَ أيُّ كتاب من بيته. ظلّ يتربّص بعضُ أصدقائه يوم وفاته، عسى أن يستعيروا كتبًا بحاجة إليها من ورثته، بعد مضي أيامٍ قليلة على وفاته ذهبوا للأبناء لاستعارة ما هم بحاجةٍ ماسة إليه، فقال الورثة: ليتكم جئتم أبكر، بعد فراغنا من عزاء الوالد كنا بحاجةٍ ماسة لتفريغ غرفِ المكتبة، فوضعنا كلَّ الكتب في أكياسِ بضائعَ كبيرةٍ وألقيناها في نهر دجلة. آغا بزرك الطهراني يروي في موسوعتيه: «الذريعة إلى تصانيف الشيعة»، و»طبقات أعلام الشيعة» قصصًا مؤلمة عن مصير بعض المكتبات، لفرط اعتزازِ أصحابِها بالكتابِ يرفضون إعارتَه، تلاشت بعد وفاتهم مكتباتُهم ببيعِها من الورثة بطريقةٍ عشوائية، أو إهمالِها والتفريطِ بمقتنياتِها. أظنُّ هذه كانت نهايةَ مكتباتٍ عديدة لا نعرفها، ولعل هذا ما ينتظر مكتباتٍ أخرى يعتزُّ بها أصحابُها ويدخرون فيها أغلى ذكرياتِهم.
نأمل أن يتنبّه الورثةُ لما كابده الآباءُ في بناء مكتباتِهم، كلُّ كتابٍ يسجّل أحدَ قصصِ حياة الآباء. الوفاءُ خُلُقُ النبلاء، مصيرُ المكتبات يتحكّمُ فيه الورثة، أحيانًا يجهل الورثةُ قيمةَ الكتب، وأحيانًا يكون الورثةُ بلا وفاءٍ وبلا ضميرٍ أخلاقي، ولذا فعلى صاحبها وهو حيّ تأمينُ ما تؤول إليه غدًا، وإن كان أملُ الإنسان بالخلود في الحياة الدنيا لا يدعوه للاهتمام بما تؤول إليه مكتبتُه وأشياءُ ثمينة غيرها من ممتلكاته. المكتبةُ أحدُ مكونات الهوية الشخصية، وأرشيفُ ذكرياتِ مَن أنشأها، لا يشعر بقوة حضورِها في وجدانه غيرُ صاحبها. لتشبّعِ الكاتب بمناخاتِ مكتبته، وعيشِه أكثرَ عمرِه داخلها، تحدث صلةٌ حيّة بينه وبينها، لحظة يموت كأن مكتبتَه تكتئب ولا تطيق الحياةَ من دونه، فتعلن التحاقَها به أيضًا، لفرطِ صدمتِها قد يكون موتُها انتحارًا.
عالمُ الأبناء غيرُ عالم الآباء اليوم، حياتهم تغيّرت كثيرًا، نمطُ العيش في البيوت الواسعة بدأ ينحسر، فرض تضخمُ المدن واتساعُها أفقيًا وابتلاعُها المزارعَ والبساتين والغطاءَ الأخضر، الانتقالَ للمباني العمودية ووحداتها السكنية الضيقة، أغلبها بالكاد يتسع للأثاث المنزلي، فأين تأوي رفوفُ الكتب الممتدة. أغلب الجيل الجديد يقرأ الكترونيًا، ويفتقر لحنين الآباء للورق، ولدي محمد حسين الرفاعي أخبرني أنه اعتمد على كثير من المراجع أغلبها الكترونية، عندما كتب أطروحتَه للدكتوراه.
بعد اشتداد الرقابة، وازدياد عدد العنوانات الممنوعة في العراق بشكل واسع، أضحى تزويدُ المكتبات من إصدارات بيروت والقاهرة وغيرهما شحيحًا أواخر سبعينيات القرن الماضي. قلّما تُضاف عنوانات جديدةٌ لمطبوعاتٍ من خارج العراق. أكرّر زيارةَ المكتبات في النجف أكثر من مرة أسبوعيًا، أحيانًا أجد كتابًا جيدًا بثمن زهيد، أنفق نسبةً مما يصلني من راتب محدود في الحوزة على شراء الكتب. اتسعت المكتبةُ بسرعةٍ تفوق ما أتوقّع، إثر تزويدها المتواصل بعنوانات كتبٍ منتقاة، من المقرّراتِ الدراسية في الحوزة وشروحِها لمرحلتي المقدّماتِ والسطوح. نسبةٌ ليست قليلةً من الكتب الفقهية والأصولية كانت بطبعاتٍ حجرية بحجم الموسوعات، تزدحم داخلَها شروحٌ وتعليقاتٌ وحواشي فقهاء وعلماء أصولٍ لامعين، كثيرٌ منها تستوعب مجموعةُ صفحاتها عدةَ كتبٍ متجاورة، مرسومةٍ بأشكالٍ هندسية متناظرة، مدونةٍ بخطوط متنوعة غاية في الروعة. تجاوز عددُ مقتنيات المكتبة مدة إقامتي بالنجف 800 كتاب. بعضُها مجلات صدرت في النجف وبغداد قبل سنوات، مثل: الأضواء، الإيمان، النجف، رسالة الإسلام، وغيرها. أكثر ما تحتويه المكتبةُ قرأتُه بعناية، أنكبُّ ساعاتٍ طويلة على قراءة المطبوعات الحجرية، قراءةُ المجلاتِ والكتب محطةُ استراحة. أقرأ سريعًا، كأني أمام امتحان، لا أفرغ من كتاب إلا وحفظت شيئًا من محتوياته. في يومين فرغت من مطالعة كتاب: «لمحات من تاريخ العالم»، يتضمن رسائلَ جواهر لال نهرو لابنته أنديرا غاندي من سجنه، عدد الرسائل 196 رسالة، من أكتوبر 1930 إلى أغسطس 1933. رأيته من أمتعِ الكتب وأكثرها نفعًا تلك الأيام.
كتابٌ زاخرٌ بالوقائع والمعلومات، والرؤى الذكية لسياسي واقعي متمرّس، يهتم بدراسةِ وتحليلِ مواقفَ صنّاعِ التاريخ واستخلاصِ دروسِ حياتهم. نهرو وريث المهاتما غاندي السياسي، غاندي ونهرو مؤسسا الدولة الحديثة في الهند بعد تحررها من الاستعمار البريطاني، أمرَ نهرو بسنّ دستور الهند سنة 1950، الذي كفلَ التداول السلمي للسلطة في بلاد شاسعة تتجاور على أرضها أديانٌ وطوائفُ وقومياتٌ وثقافاتٌ ولغاتٌ متنوعة. منذ لحظة الانطلاق ما زال المجتمعُ الهندي يراكم تطورًا علميًا لافتًا، ويسهم بابتكار أحدث البرمجيات وكلِّ ما يتصل بالكومبيوتر وغيره من التكنولوجيات المتقدمة. أُكرهت على مغادرة بيتي في النجف، وفقدان ما أمتلكه، ولم يكن غير أثاث منزلي زهيد، لم أكترث بأي شيء نُهِب سوى المكتبة حيث أودعت أغلى ذكرياتي في حوزة النجف. كلُّ شيء في البيت وقع في قبضة شرطة الأمن، لا أتذكّر أيَّ شيءٍ أقسى مرارةً من ضياع كتب عشت معها وعاشت معي، وأنفقت وقتي بدراستِها
ومطالعتها.
الهامش:
1 - الصرائف نمط موروث من البيوت، الشائعة في حياة سكان الأهوار في العراق، مبنية بالقصب والحصران «البواري» المصنوعة من القصب.