المسرح بين الفعل والسرد

ثقافة 2023/08/09
...

 أ. د. باسم الاعسم

قبل قرون خلت، وضع أرسطو إصبعه على الجرح، عندما قال في مؤلفه الشهير (فن الشعر): إن الدراما محاكاة فعل نبيل تام، لها طول معلوم، بلغة مزودة بألوان من التزيين، تختلف وفقاً لاختلاف الأجزاء، وهذه المحاكاة تتم بوساطة أشخاص يفعلون لا بوساطة الحكاية، وتثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات.
ولنا أن نتخيل بلاغة أطروحة أرسطو، عندما منح الفعل سلطة تفوق السرد في بنية خطاب العرض المسرحي، فكيف الحال إذا عندما تجتاح التقنيات والتيارات الحديثة، ذات المقاربات الجمالية عالم الدراما أو المسرح الذي يعتمد بكليته على الأفعال السمعية والبصرية والحركية المشيدة للصور الأشهاريّة، التي وظيفتها نقل الأفكار التي ينطوي عليها متن النص الدرامي إلى أذهان الجمهور، بعد أن تكون حاملة لشرطها الجمالي، وبعدها الإنساني على حد سواء.
إنَّ السرد يليق بفنون السرد كالقصة والشعر والرواية والملحمة، مثلما أن الفعل يليق بالعروض المسرحية على تنوع أشكالها، واتجاهاتها، وان الأمر يحكمه فعل المشاهدة والاستجابة من عدمها، لاسيما ان الجمهور يزمع مشاهدة الأفعال والصور والتكوينات والكتل، والشخصيات المحكومة بقانون الفعل الحركي، والتبادل اللحظي، وهنا، تتعاظم هيمنة الصورة البصرية المتحركة، وليست الساكنة، فتتعاظم الأفعال المحركة للصور، في ما تتضاءل السرديات، أي الملفوظات الكلامية أو اللغوية، أزاء الأفعال المشيدة للأحداث التي تؤسس قانون العرض المسرحي.
وإذا ما انتعش السرد في النصوص، أو العروض الكلاسيكية، أو الواقعية الفوتوغرافية، فبسبب تقليديّة المقاربات الإخراجيّة التشخيصيّة، بما يتوافق والذائقة أو الذهنيّة المحافظة، فإنَّ العروض المسرحية المعاصرة، التي اجتاحتها الأساليب الإخراجيّة الحديثة، والتقنيات المتسارعة، لم تعد تعول على سرد الأقوال، بل على تسارع الصور والأفعال، بما يتوافق ومضمون المثل الصيني الذي مؤداه: أن الصورة تعادل ألف كلمة.وهذا يؤكد لنا أن العرض المسرحي، إن هو إلا سلسلة تتابعيّة منسجمة من الصور السمعيّة والبصريّة والحركيّة، التي تهز وجدان الجمهور، وذائقته، لتأثيرها المباشر على مدركاته وخلجاته، فتبقى ماثلة في ذاكرته، على الضد من الحكي السردي المسهب، المولد للملل غير المحبّب، إذ لا يمكن لملايين الكلمات أن تحدث التأثير على ذائقة الجمهور، عند الحديث عن الموناليزا، من دون إظهار صورتها، وإن كانت لرسام آخر غير دافنشي، لما للصورة من وقع نفسي كبير على مدركات الجمهور، بما يحدث التفاعل المباشر، بين الذوات المنتجة والذوات المستقبلة، فكيف هي الحال في عرض تطغى عليه الصور، فتزيح الحوار، وخاصة الصور المدهشة، التي تزلزل كيان الجمهور، فمن البداهة أن يتسامى العرض، وتتنامى وتائر التلقي والاستجابة الجماليّة والوجدانيّة، فيحقق المعرض المسرحي جدواه.
وطالما منيت العديد من العروض المسرحية بالفشل الذريع، لأنّها كانت صوتيّة، أي حواريّة، وليست صوريّة، وعندئذٍ يستطيع الجمهور إغماض عيونه والاستماع إلى العرض بأذانه، فهو عرض إذاعي، وتلك انتكاسة إخراجيّة فادحة.
يظن بعض ممن يمارس مهنة الإخراج، أن المهمة الرئيسة للمسرح، هي نقل الأفكار، وتجسيد الفلسفات، وتطبيق المفاهيم النظريّة، وسوى ذلك من آراء تقصر خطاب العرض المسرحي على تلك الأمور، ولا ضير في ذلك، لكن ذلك، لم ولن يتحقق من دون توفر الصور والأفعال البصرية التي هي من يحقق المتعة والجمال، ويوصل الأفكار، إذ إن الأهم أن يكون العرض المسرحي أشبه بمتحف للصور المتعددة، والمتنوعة، فعيون الجمهور تلاحق الصور بشغف مبين، فيتحقق عندئذ التمازج الرائع بين الحوار الدرامي المشبّع بالصور، وبين المشاهد البصرية للمقاربة الإخراجية.
وتلك هي المعادلة الجمالية التامة والمتكافئة في العرض المسرحي المتوازن، الذي يحقق التلاحم الفني بين معنى النص الدرامي، وبين مبنى العرض الجمالي.ومن دون إنجاز التوافق الفني البنيوي بين النص المكتوب للعرض لكي يترجم بهيئة صور جماليّة وأفعال بصريّة حسيّة، وبين رؤى المخرج التجديديّة الخلّاقة، سوف تتعثر آليّة التلقي، ويحدث ما لا يحمد عقباه، من نتائج سلبيّة تضر بسمعة المؤلف والمخرج بالدرجة الأساس، والعكس في ما لو أنتج العرض بحسب استراتيجية، أطرافها المؤلف والمخرج الكفء والدراماتورج، والمصمم البارع، فسيعمُّ عندئذٍ الجمال المسرحي الباذخ، ويخفف السرد الحكائي، فيغدو العرض بمثابة كرنفال جمالي مدهش.إنّ جوهر الأشكالية يتعلق في حقيقة الصراع بين السرد المناقض للفعل، وبين الأفعال البصريَّة المعبّرة عن جماليّة المشاهد المنتجة لخطاب العرض المسرحي، مثلما هو الصراع بين الذوات المنتجة للعروض المسرحية، هذا حريص على ترجمة أفكار المؤلف، وذاك منحاز الى خبرته، ومخيلته، وخزينه الثقافي والمعرفي، وهكذا تتنوّع المقاربات الإخراجيّة بين دعي، وبين مجدد.
إنَّ المخرجين المجتهدين يركزون دائماً على فعل الصورة، وليس على فعل السرد، كما الحال لدى المخرج الدكتور صلاح القصب، وذلك لكفاءة وقدرة الصورة على بث الرسائل المتنوعة، ومن ثم اختزال الزمن، وتحقيق المتعة البصرية.  
نخلص مما تقدم، أن المخرج التقليدي الذي يفتقر إلى الوعي المكثف، والخيال الجامح، والخبرة الكافية، يكون في العادة أميل إلى تقديم العروض النصيّة أو الحواريّة، مثله مثل الناقد غير المختص، الذي ينشغل في نقد النص من دون العرض، في حين أن المخرج الواعي، والتجديدي القلق، ذا الرؤى الفنية الخلاقة، يحيل العرض إلى سلسلة تتابعيّة من الصور الواقعيّة والافتراضية الهائلة التي تخاطب العيون، على عكس السرد الذي يخاطب الآذان. ولو كان المسرح فناً سردياً، لتفوقت عليه فنون السرد، الفردية، لكنه فن جماعي، وبسبب السحر الكامن في صوره الإبداعيّة، فقد تفرّد، على الرغم من وفرة وسائل الاتصال، وتعدد الفنون البصريّة، وبقي الفن الأكثر جذباً،
وجدلاً، وجمالاً.