بيع السكائر أفضل من بيع الضمائر

ثقافة 2023/08/09
...

سامر المشعل

هذه الجملة أطلقها الشاعر جبار الغزي، عندما كان يبيع السكائر بـ" جنبر" بسيط في شارع السعدون، وجاءه صديق طفولته من الناصرية ليزوره، فقال له متعجباً: ماهذا يا جبار تبيع سكائر؟! فرد عليه " بيع السكائر أفضل من بيع الضمائر".
كم مؤثرة هذه المقولة، وهي تصدر من روح شاعر شفاف وضمير نقي أبى أن يتلوث، فضل العيش بكفاف وتذوق مرارة العوز والجوع على أن يبيع ظميره، لم يشأ أن يكون شاعراً بلا مبادئ وشرف.
بعض الجمل عندما تخرج بصدق من أناس أنقياء تتطابق أقوالهم مع أفعالهم يكون لها صدى يظل يتردد عبر الأزمان.
جبار الغزي كتب أعذب الأغاني العراقية وأصدقها ومنها: أغنية "غريبة الروح"، من ألحان محسن فرحان وغناء حسين نعمة، وأغنية "يكولون غنيا بفرح" من ألحان محسن فرحان وغناء قحطان العطار، وأغنية "لا أول ولا تالي" من ألحان محمد جواد أموري وغناء كمال محمد، وأغنية "ما بيه أعوفن هلي " من ألحان محسن فرحان وغناء حسين نعمة، وأغنية "لعيونك الحلوات"، من ألحان جمال فاضل وغناء علي جودة، وأغنية " ناطره عيوني بدربكم" من ألحان محسن فرحان وغناء سعدون جابر، وأغنية "هاي وحده وياك يلناسينا"، وكذلك أغنية "عالحواجب يلعب الشعر الحرير" اللتين غناهما الفنان فاضل عواد.. وغيرها.
وهناك الكثير من النصوص والأغاني، التي سرقت منه، بسبب تشرده وفي لحظات ثمالته التي يغفل بها عن نفسه والكون.
جبار الغزي " 1946 - 1984 " مواليد ناحية الفجر بمحافظة الناصرية، أكمل دراسته الابتدائية فيها، بعد ذلك أكمل دراسته في اعدادية الصناعة بالبصرة، ثم انتقلت عائلته لتسكن في الناصرية.
تعرض الغزي إلى صدمة عاطفية هزت أركان وجدانه وغيرت مجرى حياته، فقد عشق فتاة من منطقته الفجر وكان يسميها " فجرية " وعندما انتهت بالفشل، وأهل حبيبته فضلوا شخصا آخر، ضمن قياساتهم المادية، لم يتحمل الصدمة.
فأراد الهرب من الماضي ومدينته وذكرياته وقرر الهجرة إلى بغداد، وأراد الهرب من حزنه وخيبته إلى الثمالة..
لم يكتفِ بذلك أنما قرر الخروج من ذاته بحسب المفهوم، الذي طرحه البير كاموا، وهذا ما أشار إليه الشاعر أدهم عادل بمعرض حديثه عن الغزي.
فقرر التمرد عن كل ما هو سائد ونمطي، واثر حياة التسكع والتشرد بين بارات بغداد وفنادقها الرخيصة، وعندما أخذ الحرمان يلسعه بسياطه المؤلمة أخذ يفترش الأرصفة، لينتهي به المطاف تحت جسر الأحرار.. إذ توقف نبضه في ليلة قارصة البرودة، ولم يتعرف على جثته أحد لينقل إلى الطب العدلي.
لم يأبه جبار بنصائح أخوته وأصدقائه وأمه، التي تحبه بجنون وهو كذلك، لأن يبدأ من جديد، ويهجر طيف حبيبته، لا سيما أنه يمتلك موهبة شعرية فذة تؤهله لأن يكون ذا شأن كبير بالمجتمع والوسط الفني.
بل ظل أسيراً لجرح الحبيبة الذي ما انفك يراوده حتى أنهى حياته، رهافة المشاعر التي يمتلكها أدت إلى اختلال حياته، وممكن أن تكون قصة عشق جبار لفجرية من قصص العشاق النادرة بالتاريخ الانساني مثل مجنون ليلى وعنتر وعبلة.