اللَقْلق

ثقافة 2023/08/12
...

 ناظم مزهر

                                   

أقلقني مَظهره لحظة دخولهِ مع عامل الفندق الذي أخبرني إن شريك غرفتي عراقي أيضاً.

دَسَّ الرجل حقيبتَه الصغيرة تحتَ السرير الثاني ولَمْ يَقلْ غير (مرحبا) عَجلى، شأنَه شَأن عَابري الليل من نزلاء الفنادق الرخيصة في عمّان وطالَعَني بهذه النظرة الكسيرة التي يَنمُ لمعانُها عن حزن خَفي. لمْ يخلع ثوبه الأبيض، لا ولا حتى حذاءَه وهو يجلس طاوياً ساقيه النحيفتين الطويلتين.

عَلّهُ يقول شيئاً ! 

لكن الرجل لبثَ صامتاً وكأنه لا يدرك أبداً أن عليه أن يقول شيئا. رحتُ أرقبَهُ بنظرة جانبية وهو متشبث بحافةِ السرير؛ ولَعَلّه بهذا التَّشَبُّث الشديد كَمَنْ يخشى انهياراً قد يُسفِرُ عن افتضاح أمره.

لكنّه تَمالك نَفسه وتمدد على السرير.

ولَمّا أغمضَ العينيّن، رحتُ أسترق السّمع إلى أنفاسه، خُيّل إليّ انه غَطَّ أخيراً في نومٍ عميق، لكنه لم يَنم، بل راح بين اللحظةِ والأخرى يَمدُّ ساقيّه الطويلتين مُتأوِّهاً، ثُم ما لبث أن ضمَّ رأسَه الصغيرة تحت ذراعيه كأنّما يريد إخفاءَ مشاعره أو يحاول أن ينام.

ربما هو يبكي بصمت كطير مكسور الجناح.

هذا يقَع كثيراً لِمَن خَذله الزمان!

وهو بهذا القلق كأنَّ شيئاً مُلِحّاً يُعذبه. فلم أك قادراً، وهو بالوضع هذا، على إصدار أي صوت يُمعن في إيذائِه أو يمنعه من أن ينام. لهذا آثرت الصمتَ وامتنعتُ عن السؤال ورحتُ أُسارقه النظر بطارف عين. بدا لي رقيقاً في غاية الرِقّة. أَردتُ أن أفعل شيئا آخر غير الكلام، كتغطيته بملاءة السرير على سبيل المواساة لِما يَمرُّ به من لحظات عصيبة تمنعه مِنْ أن يَركدَ أو ينام، لا سِيَّما وأن دجنة الليل بدأت تَخفُّ بعد آذان الفجر وتتكشف عن زُرقةٍ غامقة فوق منائر العاصمة عمّان، واختفى مِن السماء الكثيرُ مِنْ النجوم.

طوال الليل وهو يرنو بعين حائرة إلى باب الشُرفَةِ!

كان كَمَنْ ينتظر شيئاً أو أحداً ما يأتي أو يذهبُ اليه.

 لكن مَن ذا الَّذي يأتي إليه من شرفة عالية في مثل هذه الساعة النَديّة غير بواكير شاحبة وباردة مِنْ ضياء الفجر الجليل؟

وإلى أين يريد الذهاب؟

كان يبدو، في بعضٍ مِنْ لحظات شرودِه، وكأنه ينسى أنني معه، فيُغَمغِم دون أن يقول، ويَمدُّ يديه تحت السرير ليعبث بمحتويات حقيبته الصغيرة ويخرِج مِنْها صورة يحتضنها باعتزاز ويتأملها طويلاً وكأن ما يراه يُنعشه ويوقظ في نفسه أشوقاً قديمة.

راح يذرع الغرفة جيئةً وذهابا كمَنْ يُهيئ نفسَه لأمرٍ انتظره طويلاً، وتَسللتْ إلى شِفتيّه ابتسامة باهتة وربما حازمة لأنه عَقَدَ العَزمَ أخيراً، وانبسطت أساريره، رغم صرامة ما أَقدَمَ عليه، وكسا وجهه تعرقٌ واضح. وحين وقعَ نظَره عليَّ أخيراً، فاءَ إلى نفسِه وقد تَبدى على وجهِه، هذه المَرَّة، إحساس بما هو فيه وهو يُطيل النظرَ إلى حاجز الشُرفة وما لاح من رؤوس المنائر.

كان غارقاً في لُجَّةِ شرودٍ عميقة كَمنْ طاشَ صوابُه!

 أيُ بريقٍ غريب هذا الَّذي أَخذَ يلْتَمع في عينيّه وهو يغمر وجهَهُ فيما تسرَبَ إلينا مِنْ ضياء؟! و أضفى على سُحنَتِهِ البيضاء سحراً خالصاً. كان ثوبه الأبيض مهلهلا يهفهف كُلَّما دارَ حول نفسه مستعرضا وهو يفتح ذراعيّه كأنهما جناحان. يدور ويدور. ولمّا قررتُ أن أُكلِمه أخيراً أشار لي، بسبابة على شفتيه ألا أُحاول تَعكيرَ ما ينصت إليه، ربما هي أصداء من خطى الفجر الوئيدة فوق معابر السماء.

 لمّا وضعت يدي على كتفه للمواساة فقط، جفَلَ مثل طير، لكنه عادَ واقترب مني، وظللنا واقفيّن، هكذا مثل صديقيّن حميميّن مضى على صداقتهما زمنٌ طويل. وقف معي بتلك الهيأة التي جمعته بالأصدقاء، ذات يوم في صور الذكريات.

كان وهو يقف معي لا يرفع عينيه عن الشرفة.

 ولأنه طويل الساقين، رحتُ أقف على أطراف القدمين وأشرئِبّ بعنقي علّني أصل إلى مستوى عنقه الطويلة وأرى ما كان يرنو إليه عبر حاجز الشرفة. في مكانٍ ما مِنْ السماء كانت لقالق المدينة تمرُّ مرتحلة فجراً، حتى إذا ما تناهت إلينا لقلقتها، باعَدَ الرجل ما بين ذراعيّه كَمَنْ يفرد جناحيّن وهو بهذيّن الإكماميّن الواسعيّن الأبيضيّن، راح يدور حولَ نفسه في الفسحة الضيقة بين السريريّن ويتهادى في أدائِه لرقصة طقوسية ربما تؤديها اللقالق بفعلٍ غريزي قُبيلَ كل تحليق، وكأنه يفعل ذلك محتفلا معها على أصداءِ بهيجة.

وفجأة شعر لأول مَرَّة وكأنه بحاجة إلى الكلام! 

أخذَ يقول كلاماً مشتتاً وهو يتحدث بصوت أبح مِنْ فرط الانفعال مخاطباً نفسه أكثر مما يخاطبني. قال إنه كثيرا ما يجد نفسه خفاقة في أحلام اليقظة والمنام مع سرب من اللقالق العائدة إلى الأوطان، وانه كثيرا ما يجد نفسه في غَمْرَةِ الحماسة للحاق بها وانه يسمع خفق أجنحتها وهي تَعبر درباً مِنْ دروب السَّماء فيجدَ نفسه توّاقةً كمَنْ يَعثر أخيراً على طريق للخلاص.

كان يتحدث مثل تلميذ مدرسة ابتدائية يلقي نشيدا مدرسيا حفظه منذ سنين طِوال.

ثم توقف فجأة ولم يزل مُغَمَّض العينيّن كَمَنْ كان يغتسل بما يصلنا من ضياء ورجاني أن ابتعد عن طريقه وقد كسا وجهه بياض لا حياة فيه. تشبثت يديه بحافة الحاجز الحديدي للشرفة وجثا برهةً، فسمعت كيف طقطقتْ مفاصل ساقيّه الطويلتين. لمْ يلتفت إلى الوراء ولَمْ يَعترض وأنا افتح سحّاب حقيبته التي ظلّت منزوية مثل قفص تحت السرير. 

أخرجتُ الصورَة التي كان يتأملها.

وحين عدتُ إلى الشرفة، لَم أجد شريك غرفتي.

حقيقةً لم أجده!

 وقفتُ هناك أنقل بصري حائراً بين أفق الفجر وأفق الصورة التي في يدي؛ صورة قديمة مِصفرّة ؛ في فضائها نقطة بيضاء لطير في سماء دجلة، ذاتَ صَيفٍ مِن أصياف بَغداد.