أحمد وابن خلدون

الصفحة الاخيرة 2023/08/12
...

جواد علي كسار



لم أعرفه من قبل، بل كان أول لقائي بأحمد يعود إلى بضعة أيام مضت، حين دخل بيتنا ككهربائي مع صديق كهربائي أثق بخبرته، وهو ملاذنا في عطلات الكهرباء، وما أكثرها في بيوتنا، بل في بلدنا!

شدّني إليه شخصيته الهادئة، وعكوفه على العمل بصمت دون ثرثرة وصخب وادّعاء، وهي صفات نادرة لشاب في النصف الثاني من العشرينيات، ربما قارب الثلاثين. دامت صحبتي له ستّ ساعات أمضاها بالعمل المتواصل، فلم أره يخرج عن طوره الرزين الهادئ، ولم يتبرّم كما يفعل بعضهم ويحمّلك المنّية، مع أنك المتفضّل عليه وهو يعمل بأجره، والأهمّ من ذلك لم يذمّ عمل من سبقه، ويرمه بالجهل وعدم الفهم وما شابه، بل أشاد بعمله، مع ملاحظة واحدة يوفّر الالتزام بها، أماناً أكبر للمنظومة. لم ألحظ عليه عادات سيئة من قبيل التدخين وكثرة تناول الشاي، أو إزجاء الوقت وهدره بالهاتف الجوال، بل لا أذكر أنه استعمل الهاتف طوال مدّة عمله. ومع ذلك كنتُ ألحظ أن البهجة منطفئة في وجوده، يتحامل على نفسه لإخفاء حزن عميق، ينفلت من ثنايا كلامه ومحيّاه، رغم حرصه على إخفائه والتكتّم عليه.

لاحظتُ أيضاً أنه عندما يتحرّك في دائرة العمل، يعاني من صعوبة واضحة في حركة رجله اليسرى، حسبتها لصدع أصابه في لعبة كرة القدم، أو هي نتيجة حادث عابر تزول آثاره قريباً. كان يتحدّث بلغة أقرب إلى الفصحى؛ ممتلئة دون فراغات كبيرة، ناشئة عن حشو الكلام والعشوائيات اللفظية. وعندما دار الحديث عن أوضاع البلد، لم يقف طويلاً عند ما هو معروف من أزمة الكهرباء وأمثالها، بل كان كلّ تأكيده على أهمية استعمال أهل الكفاءات في مواقع العمل، وهو يعتقد أن الأولوية وطريق حلّ مشكلات البلد، تبدأ بتوظيف أهل الخبرات، ووضع كلّ صاحب كفاءة في موضعه. شخصياً أعتقد بأن المهارة بالتصليح وإن كانت تعتمد على الموهبة وتراكم التجربة الشخصية والخبرة المكتسبة، إلا أن المصلح الناجح بحاجة أيضاً إلى خلفية تعليمية وإطار علمي في مجال عمله، وقد فاجأني أحمد أنه خريج كلية الإدارة والاقتصاد، بيدَ أن طموحاته تهدّمت أو تعثّرت كثيراً، نتيجة مرض عميق أصابه في عظم الرجل، لم يتجاوزه رغم علاج متعدّد لمدّة سنتين، وعملية جراحية، وهذا هو جرحه في العمق. كنتُ أتحدّث له عن قناعتي التي أردّدها مع الشباب أمثاله، من أنني على يقين بأن العراق سيغادر أزماته، عندما صدمني مقاطعاً، وهو يقول بهدوء وثقة: يذكر ابن خلدون، أن الدولة تمرّ بمراحل ثلاث، هي النشوء وصعوباته، والنمو والازدهار، ثمّ قمة الترف والانهيار، ليؤكد رأيي ويصطفّ معي بالقناعة نفسها، لكن من خلال قوانين الدولة والعمران الخلدونية. حقيقة أذهلني هذا الشاب، فذهبتُ من فوري وأحضرتُ له نسخة من مقدّمة ابن خلدون، واستعدتُ معه نص ما ذكره في الفصل الرابع عشر، من أن الدولة لها عمر طبيعي كما للأشخاص؛ وفي عقيدة أحمد أن العراق على مشارف أن ينهي مرحلة الصعوبات التي رافقت انهيار ما بعد التغيير، ليتحوّل إلى الازدهار بقوّة قانون مراحل الدول بصيغته الخلدونية.