غزوان الوردي
الزمَن ذلك العنصر الفاعل في كل شيء لا تكف سلطته عنا، قاهرةً لكل ثبات مخضعةً لكلل وهم تنخدع به الذات "المسيطرة" عبر تاريخها الطويل! وهي تحاول إيقاف هذا المارد من تحطيم أبراجها العاجية وخيلائها الفارغة، وكما يقول مرتاض: " إن الزمن متسلط على الأشياء والأحياء جميعاً "، فهو بلا شك الماضي الذي أخذ مكانه الأبدي في داخلنا قابعاً في ذاكرةٍ لا تكون سعيدة في كل مرة، وهو الحاضر المنعكس عن ذلك الماضي المؤلم، وهو المستقبل المعاق بقيودهما بوصفه وليداً مكشوفاً لأعيننا مسبقاً، تلك اللحظات/ الأزمنة الثلاثة متسلسلةً أحياناً ومتداخلة متضاربة أحياناً أخرى تتحقق فنياً بمفهوم المفارقة الزمنية وبين الاسترجاع أو الآنية أو الاستباق وعبر هذا التنوع يبقى الزمن في حراك وتعاقبٍ دائمين.
إنّ لمدى التأثير والفاعلية اللذين يحققهما حراك الأزمنة في توجيه وتقييد مسار الشخصية دوراً كبيراً ومؤثراً، كما وأن لكل نوع من هذه الأزمنة وأنواعها دلالاته الخاصة به وتأثيره المتحقق بحلوله وبشعور الذات به؛ إذ إن أنواع الزمان تبرز خصوصيتها وفاعليتها عندما تدخل حيز التجربة (عبر مواجهة الذات لها والوقوع في أُتونها وهنا تتحقق سطوة الاستلاب عبر مرور الذات في تغييرها للثابت الذي كيفت نفسها عليه والذي يتعرض للهدم والتغيير بتغير الزمن واختلافه لأنه ليس تغييراً فلكياً بل انه تغييرٌ للقيم وللمؤثرات المؤثرة بشكل فاعل في وجود الذات واستقرارها. إن الزمان في السرد قد يكون زماناً طبيعيّاً يقاس باليوم والليلة والفصل والسنين، وقد يكون نفسيّاً تتجسّد حقيقته داخل الشخصيات وفي وعي الراوي وقد يكون زماناً تاريخيّاً يقاس بالأحداث والتحولات والتغييرات كالثورات والنكبات، فقد وُظِّف بقصدية في الرواية العراقية بغية الكشف والإضاءة لمديات تغلغل الاستلاب المطبق على الذات العراقية، إذْ أصبح مفهوم الاستلاب " إشكالياً عندما يتوحد الأفراد مع الوجود المفروض عليهم ويجدون فيه تحقيقاً وتلبية "لا تكون بالضرورة متحققة على المستوى الفعلي للواقع المعيش، فــالتوحّد ليس وهماً إنما هو واقع، بيدَ أن هذا الواقع لا يعدو هو نفسه أن يكون سوى مرحلة أكثر تقدماً منه فهو قد أصبح موضوعياً تماماً وباتت الذات مختزلة لقوة وفاعلية وجودها المتصف بالجمود غارقةً فيه وليس هناك غير بعد واحد ماثل في كل مكان وتحت شتى أشكال التغيير ومنجزات التقدم بالذات تحول دون طرحها على بساط البحث إيديولوجيا كما تحول دون تبريرها فالوعي الزائف لعقلانيتها قد أصبح أمام محكمته الذاتية هو الوعي الصحيح.
إنَّ كل تبدل زمني هو تغير بفعل الحدث فالزمن المتغير والموازي للحدث ينتقل بالذات من زمن ما قبل الحدث إلى زمن ما بعد الحدث فتتشتت بين مسارين يجذبانها، ولقد كانت المغايرة الزمنية هي المسار السردي المكون للحدث وراح حراك الأزمنة يلعب دوراً مهماً في الأجناس السردية التي تتقدمها الرواية بوصفها النص الابداعي الاكثر محاكاةً للواقع والأكثر تعبيراً عنه.
ففي الرواية يبقى الحراك القائم بفعل الأحداث عنصراً يدفع الكاتب إلى أن يقيم من خلاله معادلة بين زمنين تربطهما شخصية واحدة؛ إذْ يضغط كل واحد من الأزمنة أثره وشكله في الآخر، متعرّضاً للقيم والانتباه الوصفي للأمكنة والأسماء والرموز ومدى تقاطعها مع أثر التعاقب والتغير الزمني على الذات.
ومن المعروف أن شمول الرواية الواحدة على أكثر من حكاية يحقق تداخل الأزمنة وفق ما يعرف بالتضمين الذي يعني إيلاج حكاية في حكاية أخرى؛ إذ التلاعب بالزمن توظيفٌ عرفته العربية في أعلى نسوجها الأسلوبية منذ القدم. فالزمن عبر تداخله وإحاطته بالذات مقيد لها ومحجم ومكبل لاندفاعاتها تجعله مسألة " تابعة لمسألة أعلى شأناً منها وهي فقدان الهوية واستقلالها لكن العبور من هوية مفقودة إلى زمن مفقود يمثل ندوباً دالة على اعتقادٍ محّطم"، وعند قلب هذه المعادلة نجد أن فقدان الزمن وضياعه بالجمود بالنتيجة يمثل فقداناً للهوية.
إن التتابع الزمني في السرد يرتبط بوعي الذات ويتلاشى هذا التتابع ويختفي متى توقف الوعي بالمحيط المطبق بهيمنته على الذات؛ إذ يظهر الاستلاب كواقعة زمنية مطلقة مطبقة على الذات آسرةً لها.