مستويات الخشونة اللغويّة في نسيج النص

ثقافة 2023/08/13
...

 رزان الحسني

يطلق مصطلح الخشونة على جميع الأسطح والأنسجة والبُنىٰ التي تتكون من جزيئاتٍ وخيوطٍ يمكنها أن تتفاوت بالحجم، فتزداد خشونتها بمقدار زيادة حجمها وتقل لتصبح أنعم بصغره. واللغة كما نعرف نسيجٌ عظيمٌ يلف الأفكار المرئية واللامرئية ويتسطح ليصبح مترجماً للفكر والشعور، ورغم إني أؤمن أن للغة وجهان سحريان، الوجه الذي تتسطحُ عنده والوجه الذي تصبح صندوقاً عنده، فسأستعمل في المقالةِ هذه المثال الأول، والذي يتيح لي وللقارئ تخيّل شعور الملاءة أو اللحاف أو أي نسيجٍ آخر قابل لمحاكاة فكرة البلل واليباس، الخشونة والنعومة.
اللغة الشعرية العنيفة هي ما توصف به في العادة الخشونة والغلاظة في الشعر، التي تُسقط الهراوة على رأسك أو تدفعك على وجهك لتقع على/ في أرضية القصيدة، تلك اللغة التي تُخرجك منها مصدوماً نفسياً، مُتأمّلاً بعينين مفتوحتين المشهد نفسه مراراً وتكراراً، وهي ما أسمّيها بالحقيقة الشعريّة، الخالية من التزييف والتزويق، وغير المنعّمة بورق الزجاج، أي هي اللغة الواقعية لمشهد الشاعر كما ولدتهُ الطبيعة، بِلا التزام بالجماليات الشكلية التي تفرض على الشاعر اختيار زوايا معيّنة وألوانٍ برّاقة، تصوّر السيئ بالجميل، وتُظهره بمنظرٍ قابل للاحتمال وللمحبّة حتّىٰ. هي اللغة التي أحتاجها حين أروم الكتابة عن تلك الليلة -من طفولتي- التي رأيت فيها الرصاص من باحة المنزل وهو يلمع بمرورهِ سريعاً فوق سطح البيت، ورائحة الدخان القادمة من بعيد، وأبي وهو يخطفني من تحتِ تلك النشرةِ الضوئية، عن المرّات التي اهتزّت بها أرض الغرفة وسقط تراباً من جدران المنزل على رؤوسنا لأن انفجاراً حدث على مقربة، عن ليالي ٢٠١٩ التي بكيتُ فيها على من مات وأنا أشعل شمعاً لهم في حين أن حفلة الرصاص مستمرّةً فوق رأسي، مُدركةً أني سأكون بحاجة لمزيدٍ من الشموع. هي حبل المشنقة الذي لا يقتل، والأداة ثلاثية الأبعاد التي تسحبك نحو عيش المشهد، والتي من القوّة أنها لا تتردد باستخدام كلماتٍ تُثير الهلع لدىٰ القارئ، أو تُسمّي الأشياء بأسمائها الأرضيّة، ولا تتركها منقوصة أو مزيّنة، هي ما سأحتاجه حين أكتب عن تلك المرّة التي سقطتُ من السيارة في منتصف الطريق العام، والمرّة التي رأيتُ فيها شخصاً يتم اختطافه، أو حتى حين ودّعتُ من أحب، وحين اختبرت مشاعر الغدر لأوّل مرة، وحين يأست من المشهد أخيراً.
إذن اللغة الخشنة هي اللغة الواقعية التي تُحاكي قدرة المرء على النظر ومنحهُ مشهداً مقروءاً، والواقعية هي اللغة الخشنة، المُجرّدة من المشاعر المزوّقة الرقيقة والتشبيهات الخيالية الشعريّة. ولا أتحدّث عن اللغة المسمومة التي يُمكن لها أن تصلّب قلب المرء وتجرّده من أحساسه بإنسانيّته، ذلك البرهان المزيّف على قوّة الفرد في القبيلة وبأسه ورباطة جأشه، ولا تلك اللغة المُستخدمة في الهجاء والذم والخطاب السياسي والخطاب المتعصّب، إنما كل ما يُمكن أن يمنح القارئ - مع التزامه بشعريته- عدسةً مكبّرةً للنص ليدعه يكتشف -بهدوءٍ وببساطة- كل ما رأتهُ الشخوص من مأساةٍ وصراعات، أو صندوق ضوئي وقماش أبيض ليأخذهُ النص برحلةٍ سينمائية، يخرج منها مبهوراً. لذلك للغة الواقعية أن تكون رقيقة أيضاً، فلا يشترط بها نقل المشاهد المروّعة فقط، لكنّها اللغة المجرّدة من التزويق والتكلّف، في قصيدة ابتهالات للشاعر محمود البريكان يقول: أجمل ما في العالم مشهدهُ العابر ومباهجهُ الصغرى./ طوبىٰ لك إن كنت بسيط القلب فستفهم مجدِ الأرض/ سحر الأشياء المألوفة،/ إيقاع الدأب اليومي وجمال أواصرِ لا تبقىٰ/ وسعادة ما هو زائل.
وهي وسيلة للتخفيف من وطأة الذاكرة ومشاركة مواسية لذلك الانفعال الخارج عن السيطرة جراء الأحداث الداعية لليأس أو الصادمة منها، وهي تجسيد واضح وصريح لما يتعرض له الإنسان من تفاعلات ماديّة-واقعية تأبى أن تتخفف بالخيال والرومانسية. واللغة الانطباعية ترتبط بالحواس العضوية أكثر من ارتباطها بالذهن والمخيّلة الشعريّة، ثم تخلص إلى نتيجةٍ يتعامل معها المُلقي والمتلقّي. على عكسِ اللغة الخيالية- الناعمة، التي لا تخلص إلى نتيجة وقد لا تؤثر على ذهن الشخوص تأثيراً قطعياً ودائماً.
اقرأ ما يقول علي محمود خضيّر، بلغتهِ الواقعية الشفافة، واخبرني أن مكوّنات هذه اللغة الحقيقية ذات السينمائية البسيطة لم تطبع مشهداً في ذهنك، ولم توقدهُ لانتباه الأشياء التي لطالما كانت موجودةً لدرجةِ أننا لم نعد نراها: ليس من أجلي أجولُ كل يومٍ الأرصفة ذاتها/ ضاحكاً من كتابةِ ذكرى، مؤجلاً غدي برعب يومي./ متوثّب للنسيان، مخلص للسهو./ أسهو عن مخاذل العيش، عن الأصدقاء وهم يكذبون/ عن جثةٍ -هي الحقيقة- تبلغها فتموت بين يديك/ عن رعدةٍ تجيء وتنسلُّ دون اكتراث أحد/ عن ظلٍ زائف وشعوبٍ بآجالٍ ورقيّة/ عن الخيانات، عن أطفالٍ يموتون قبل أن يدركوا الرمق/ وعن شتلة المطاط تموت في الزاوية رغماً عنّي. إن عناصر اللغة الخشنة لا تشترط أن تشعرك بالقرف والنفور، يكفي أن تشعرك بالواقع، وفعل الشعور يشترط الاتّصال بالواقع وملامسة أرضه الباردة احتفاءً، لا دغدغته. القصيدة الجيّدة هي ما تمنح عينيك القدرة على ألّا ترمش من الدهشة.
إن اللغة الخشنة هي اللغة الواقعية، كما قلت، مع ذلك هنالك معايير شعريّة مهمّة، تمنع اللغة من أن تنحدر نحو البذاءة، وتختلط بالابتدال والمشاع بحجّة الواقع المؤسي، فالسهل الممتنع مرافق لجمالية اللغة الانعكاسية، يقول فوزي كريم، بأبسط الكلمات وأكثرها تأثيراً: نتلمسُ لائحةَ الموتى، هلْ نحنُ هُنا؟/ طرفُ السبّابةِ ضيّعنا./ نرتدُّ دوائرَ، مأخوذَينْ  بِجاهِ الخوف،/ لا يجد المُتعَبُ منّا متكأً إلا نعْشَه.
أما اللغة الناعمة، بتراوح مستويات النعومة واختلاف خصوصية الأسلوب، هي تقليل حدّة الواقع وتفعيل المشهد الخيالي المحسوس، على عكس الأولىٰ، إذ تعتمد كلياً على بواطن المرء وما يخطر على بالهِ من تشبيهاتٍ ناعمة وحسيّة للمشهد الشعريّ، واختيار أكثر المفردات إثارةً للأحاسيس وأقوىٰ الانطباعات، بسرياليةٍ أو فوق واقعية، لترقى بالمشهد الواقعي إلىٰ ما فوق الحسّي والمرئي. ومثلما يجب ألّا تنحدر اللغة الخشنة للبذاءة، فيجب ألّا تنحدر اللغة الناعمة للميوعة، كما نقرأ بعض القصائد، فلا أحد يستطعم ما يفتقد الملح، أو يستلطف العناصر الباردة المتمازجة مع بعضها، والفاقدة لهويتها.
أعتقد أن أفضل الأساليب اللغويّة هي ما تجمعُ بين الصفات الشعرية للواقعية والخيالية، الخشونة الصارخة والرقّة المُخجِلة، الواقفة على شفا هاوية، تبثّ في قارئها شعور الأمان المشوب بالخطر دوماً، والعكس صحيح. ما من تحرّكاتٍ غير محسوبة، وما من شطحاتٍ ساذجة، ومع ذلك، لا تكفّ كفتي الميزان عن الرقص ابداً. إن القصيدة لا تنام. مصلوبةُ الجفنينِ منذ المهدِ حتّى اللحدِ/ تقترحُ التوزّع ما بين التشظّي في السكوتِ أو التكسّر في الكلام/ إن القصيدةَ لا تنام/ إن القصيدةَ خطوةٌ مغموسةٌ في التيه، في الدربِ الغريبةِ، في الظلام/ إن القصيدةَ رحلةٌ نحو الوراء، ورحلةٌ نحو الأمام/ إن القصيدةَ فكرةٌ محمومةً بالوعي، بالضدِّ الجليلِ/ بالتأويلِ، باللبسِ المكثّفِ،
بالفصام.