من الشعر والعشق إلى الملكوت

ثقافة 2023/08/13
...

  طالب عبد العزيز

 لم تقدس أمة شعراءها كما فعلت الفرس، والشعوب الايرانية بعامة، حيث امتدت يد الشعر طويلة في حبِّ الله، وتحبيب التدين، وممارسة الحياة بوصفها الهيولى، غير المنفصلة عن الحب والتحبيب، وسرت عدوى التقديس تلك في نفوس الشعوب المجاورة لها، تركيا وأذربيجان والعديد من بلدان آسيا الوسطى، ويرد ذلك الى أنَّ الشعراء هناك تماهوا في عشقهم بين ذات الحبيبة وذات المحبوب الاكبر (الله) الامر الذي لم يجد سبيله شعراً الى كثير من نفوس الشعراء العرب المسلمين، ولولا بعض رجال اللغة والدين المتصوفة، الذين تأثروا بهؤلاء، ممن تشبعت نفوسهم بالحبِّ الإلهي، وتجاوزوا حدود الفقه والأحكام الى العشق والذوبان والهيام في المحبوب لما قرأنا شيئاً عند أحد منهم.
ولعلنا نجدُ في كتب الوجد الإلهي من الشعر ما لا نجده في قصائد الشعراء الكبار، الذين لم يخامرهم الوجد ذاك، وظلوا في حدود المتاح في الشعرالتقليدي، دون المغامرة في كسر الحدود تلك، كما فعل الشيرازيان (سعدي وحافظ) اللذان ارتقيا بالشعر الى منازل التقديس، وصنعا لهما وللأجيال التي اقتفت خطاهما ما نجده من كرامة وقدسية للشعر في نفوس العامة، وإلا كيف يمكننا تصوّر السفر وشدَّ الرحال الى ضريحيهما، بوصفها مزارات تقصد ويصلى فيها تحبباً وتقرباً الى الله، بانتفاء الشعر وصورة الشاعر.
  في مقدمة ديوان (أغاني شيراز) يكتب الناشر د. ابراهيم الشواربي: «في اماكن التعليم القديمة بايران يتم تعليم الاطفال بالقرآن وبكتاب (كلستان سعدي) و(ديوان حافظ)، وغالباً ما كانت الجدات والاجداد يحفظون عن ظهر خاطر أشعارهما، لإضفاء الجمال على حياة الأسرة» إذن الشعر يعالج تعب الحياة باضفاء الجمال، ولا عجب في ذلك، فقد لقِّبَ حافظ بــ (لسان الغيب وترجمان الاسرار)، فهو بذلك يقف على مرقاة الملاك، مع الصفوة القريبة من الله، الذين يتكلمون بلسان الغيب، ويترجمون الاسرار. ولو أنعمنا النظر عميقاً في ذلك لحقَّ القول لنا بأنَّ ما مهَّده حافظٌ من طرق إلى محبة الله أكثر وأوسع مما حاوله الفقهاء المقيدون بالقواعد والاحكام: «ليلة أمس، في وقت السحر، أعطوني النجاة من الألم، وناولوني ماء الحياة، وسط الظلمات من الليل، فاخرجوني عن نفسي، بما انبعث من ضياءِ ذاتِه، وناولوني خمراً في كأس يتجلى فيها بصفاته، فيا له من سحر مبارك، ويا لها من ليلة سعيدة».
   ومع أنَّ بعضَ الفقهاء المتشددين الاسلاميين العرب بخاصة كتبوا الشعر وحضروا مجالس الفكاهة والافراح، لكنهم ظلَّوا عند عتبة المديح والهجاء، خائفين من الارتقاء به إلى منازل العشق واللطف والصفح باستبعاد مفردتي الحب والعشق، واقترانهما بحب الذات الإلهية في اِعتقاد منهم بانهم يسيئون للدين بهذه، وبذلك صنعوا لنا أجيالاً لا لين ولا طراوة في قلوبهم، على العكس مما صنعه نظراؤهم المتصوفة، وأئمة اللغة والشعراء خارج محيط العربية، مثل الشيرازيين (حافظ وسعدي) وابن عربي والسهروردي والحلاج والنفري.. الذين خطّوا بأقلامهم صفحات من الاشعار الرقيقة، ومثلها من النثر الاجمل، محببين الدين واللغة والشعر عند أتباعهم، ذلك لأنهم اكتفوا من الحقيقة بما عرفوا عنها من مواطن الجمال، في الوقت الذي انطوى فيه أولئك على الحقيقة الصادمة، حين اعتقدوا بأنهم الحق بامتلاكها، فقدّموا صورة مشوهةً عن الدين، ما زالت تشكل العقبة عند الآخر.
 والغريب أننا، لا نقرأ في كتب الفقهاء الشيعة العرب إلا النادر جداً من أشعار العشق والخمريات، فالعشق هو الذهاب الى طلب الولد عندهم، والمفردة لا تحتمل المجاز، وسوى قصائد للعلامة الشاعر الحبوبي لا يحضرني أحدٌ من الآخرين، إلا أننا نقرأ في كتب الاولين والمتأخرين في بلاد فارس مثل الملا صدرا(1572- 1640م) أو روح الله الخميني(1902 – 1989) ما يدعونا للتأمل بمفردات مثل العشق والخمر والكاس، فالعشق الإنساني عند الملا صدرا عشقان (حقيقي ومجازي) الحقيقي هو محبة الله وصفاته وأفعاله، والمجازي ينقسم إلي نفساني وحيواني، والنفساني هو الذي يكون مبدؤه مشاكلة نفس العاشق المعشوقَ في الجوهر، ويكون أكثر إعجابه بشمائل المعشوق، لأنها آثار صادرة عن نفسه، والحيواني هو الذي يكون مبدؤه شهوة بدنية وطلب لذة بهيمية..»هذا التفريق مهم هنا، وفيه ولوج الى عوالم أرقى، وإن اقتربت من حاجات الجسد، لأننا نتحدث عن مخلوق، تتنازعه العناصر.
  نقرأُ عند من لا يفرق بين الحقيقة والمجاز آراء وتهماً باطلةً، ذلك لأنَّ اللغة جامدة عندهم، لا تنصرف أبعد مما في رؤوسهم،  فذهب أصحابُها الى تكفير هذا وذاك من كبار العلماء، الذين افنوا اعمارهم بالتأمل والمناجاة، غير واقفين على ما في أنفس هؤلاء من عشق ولطف ودعة، وهذا الإمامُ الخميني يقول:»  قد ناءَ الصوفيُّ والعارفُ من هذه البيداء/ فأحتسِ الخمرَ من المطرب، فهو هاديك إلى الصفاء/ إنْ أرشدَني إلى باب شيخ الحانة/  فلأسلكنَّ، لا بقدمي بل برأسي، وروحي الطريق إليه». في تجليات الشعر فسحةٌ كبيرة، لتأمل الذات، وفي فضاء اللغة متسعٌ، لا يُحدُّ بفقه، ولا يلجمُ بحكمة ناقصة، والطريق الى الله آمنة عبر العشق واللغة والشعر وتسلك دونما موجهات
حاكمة.