سؤال عاطفي لكوابيس غير عاطفيَّة

ثقافة 2023/08/13
...

 فدوى العبود

صرّح أحد تلامذتي، وبينما أكتب قائمة بالإنجازات والمناقب العلمية والعلماء. عن كون الأخير أعمى! شرح الدمار الذي ألحقه بالطبيعة، وعدد الأضرار التي تسبب بها بثقة تفوق سنه، كانت أول مرة أواجه فيها موقفًا كهذا، لدرجة أن مناقب العلم التي دونتها فوق السبورة تهاوت تلقائياً بين قدمي أمام قوة ووضوح موقفه العاطفي. كنا في 2021 وهي السنة التي أعقبت كورونا الفيروس المفتعل، بحيث كانت سمعة العلم مشروخة في صميمها ودوافعه مشكوك فيها.

تذكرت هذه الحادثة عقب فقدان غواصة تدعى «تيتان» على متنها خمسة أثرياء يتوقون لزيارة سفينة التايتانيك، وبين العمليتين فرق زمني 111 سنة.
وبما أنني جزء من عالم لا يعرف الكثير عن منجزات العلم، فأنا بصراحة أنتمي لمن يُرمون في القوارب المطاطية ثم يُغرقون مع حقائبهم، هنا لا نسعى لإطالة أعمارنا لأننا نؤمن بالقدر، ولا لتجميل أجسادنا لأننا نؤمن أن العطار لا يصلح ما يفسده الزمن، ولا لتجميد بويضاتنا لأننا لا نريد لثمار روحنا أن تمرّ بيد غريبة أو ثلاجة باردة.
لذلك يمكن اعتبار الهذر الوارد في ما يأتي مجرد تطفل، فسؤالي ليس أخلاقياً، والأخلاق آخر ما أفكر فيه؛ بل أحاول استكشاف الشهوة البشرية مغلّفة بالعلم، والرعونة التي تتمثل في رد روش   بعد قراءتي لتقرير البي بي سي الذي كشف لرئيس شركة “أوشن غيت” في مارس/ آذار رسالة قال فيها: “أعتقد أنك تضع بشكل محتمل نفسك والعملاء في وضع خطر. وفي سباقك للوصول إلى سفينة تيتانيك فإنك تكرر تلك الصيحة الشهيرة التي كانت تقول: إنها غير قابلة للغرق. ورد روش عليه بالقول إنه “تعب من اللاعبين في هذا المجال، الذين يحاولون استخدام الجدل بشأن السلامة من أجل وقف الابتكار” والتهديد باتخاذ اجراءات قضائية”. ولن أخبركم عما تثيره عبارة القضاء والعدالة والشرف من غثيان بالنسبة لي لأنها كحقن المخدر التي تخصنا في هذه القطعة البائسة من الكوكب.
هذا الرد المتعالي والمتفاخر بما يسمى الإجراءات القضائية، يكشف عن حقيقة لا يمكن الجدال فيها، خصوصًا وأن المنطق هنا عاطفي بحت: الشهوة ذاتية جداً، وبما أنها نرجسية جداً فإنها في هذه الحال فارغة.لست بصدد عقد مقارنات تنبع من دوائر الشعور بالاضطهاد بين الخبر الذي تصدر مواقع التواصل، وبين غرق مركب للمهاجرين في اليونان، والتمييز التقليدي بين الغني والفقير؛ من حجم السائرين في الجنازة؛ وحجم الذين يسترون فضيحة الأول ويفعلون العكس في حالة الثاني.
لكن السؤال الذي تبادر لذهني هو الثمن المدفوع 250 ألف دولار كشهوة لرؤية حطام عالق في الأعماق. شهوة الاكتشاف، شهوة التدمير، شهوة الظهور. في كوكب لا يختلف عن مدينة “راي لوريغا” الزجاجية في “استسلام” حيث تتم إعادة تدوير الفضلات التي تنساب في صنابير زجاجية. وهذا كله لم يدفع أحداً للسؤال عن جدوى زيارة الحطام!
 لا شكَّ هناك أجوبة لدى من سيقرؤون هذا المقال لكن أرجوكم تجنبّوا الموضوعية، خصوصًا أن هذه الكلمة هي موضع ريبة أيضاً، كل الموضوعين عبر التاريخ ثبت تواطؤهم على الموضوعية ذاتها.
لا يمكن لأحد أن يقدم جوابًا علمياً لسؤال عاطفي كهذا، ولا فهم دوافع خمسة أثرياء لزيارة حطام في وقت يزداد فيه العالم سوءاً، هم ليسوا مسؤولين بالطبع سوى عن رغباتهم لكن هذا الثراء لم يأت من كوكب المريخ، بل من كوكب يتشاركه أناس التهموا حصة غيرهم واضطروهم لعبور البحر في قوارب مطاطيّة.
وأقرّ لكم بأنني كنت أمر سريعًا على خبر أي منجز علمي، وذلك بتأثير ذكرى عاطفية لا تعني القارئ في شيء ومع ذلك يمكنني إيرادها للأمانة: فالرجل الذي أحببته في شبابي كان منبهراً بالعلم وشبيهاً به: أجوف وقاسٍ وموضوعيّ .
فالعلم أضرّ بالحياة الإنسانية أكثر مما أفادها، تلاعب بالطبيعة وردّت الأخيرة له الصاع صاعين فتماهت فصولها ولم تعد تتمايز. كمراهق استولى على ثروة لم يتعب في جنيها. لذلك بددها بإسراف.
“هل هذا تعريف جيد للعلم؟”
إذاً: غرقت “تيتان” ومعها خمسة أثرياء وضعوا من أجل رحلة الموت ما حصيلته مليون دولار.  من أجل الاكتشاف!
إن خدمة البشرية أبعد ما يكون عن الدوافع التي تنثر أمامنا كالعظات.
تخيل إن استطعت” بهذه العبارة يمهد فوستر لقارئه في روايته الآلة 1909. والتي رصدت غياب الإنسانية والعيش الافتراضي والتحضر بلا روح. إنه عالم غريب، يوحي أنه مثالي وعبادة الآلة هي ما تتنبأ به هذه الرواية.
إن العقرب بلا خيال، لأنه بلا نظر، عموماً أبطال فوستر بفتقرون للخيال بعيدون عن الواقع ويتجنبون التجارب المباشرة.
أيضا في رواية الارض صدرت عام 1990، تخيّل الأمريكي ديفين برين. العديد من الكوارث البيئية مثل الاحتباس الحراري الذي سيُهدّد حياة النباتات والحيوانات، اورويل في 1984 بيّن صياغة وتشكيل الطريقة التي نفكر فيها من قبل الأنظمة الشمولية عالم جديد شجاع وغيرها من الروايات ولعل منها رواية نحن لـ(يغفيني زمياتين) والتي تحدثت عن المشاعر كتهمة “احذر لقد صار عندك قلب”.
العلم الآن كعقرب سائب وهو بدون ضمير أخلاقي، الشهوة والاستطلاع قيمتان لا يمكن أن يعتمد عليهما. فالقوة والشهوة والتحكم قيم العلم الذكورية الأثيرة.
لقد غاصت “تيتان” من أجل حطام، دفعت الملايين التي كان يمكن ان تنقذ قبل أيام أحياء قطعة من الكوكب!
إنها نرجسية أثرياء قادهم السأم، السأم ذاته الذي دفعهم للملل من جسد المرأة وابتكار الدمى الجنسية منزوعة الإرادة. إنه ليس الشغف حقاً؛ فالشغف مبصر!
الشغف أنثوي... في قصة حلم السلطانة تقول الملكة للزائرة: “نحن نعتبر الرجال أصحاب أخلاقٍ وضيعة، ولهذا لا نحب التعامل معهم، ليست لدينا أطماعٌ في ارض الآخرين، ولا نحارب من أجلِ قطعة من الألماس، مع أنها قد تكون أكثرَ بريقاً بألف مرة من الكوهينور. وكذلك لا نحسد أيّ ملك على عرشه ولو كان عرش الطاووس. نغوص في محيط المعرفة، ونحاول أن نكتشف الجواهر الثمينة التي خبأتها الطبيعة من أجلنا”. لقد غاص خمسة رجال أثرياء في المحيط ولكن من أجل شهوةِ الحطام.... فتحولوا إلى حطام...

*-موقع الآداب، تأليف رقيّة السخوات حسين، ترجمة د. لينا إبراهيم