النسويَّة المُستلبة

ثقافة 2023/08/13
...

 جينا سلطان

    في الأنشودة السورية تباينت سُبل التعبير عن محنة الإنسان إبان عصف الأقدار والأنواء السياسية والاجتماعية، فأرسى العراب حنا مينة للمغامرة الاشتراكية في متواليات رواياته، وختمها بنهاية «رجل شجاع»، قبل أن تبدأ النجوم (الشخصيات الروائية) في محاكمة القمر (المؤلف)، وتضعه في المحاق، فيترجل عن صهوة الكلمات بعد أن امتطاها لعقود، متصدراً المشهد الروائي المحلي. وخلال الفترة نفسها عكس هاني الراهب تشظي الذات السورية إبان حرب الأيام الستة في مجموعته القصصية «جرائم الدونكيشوت»، حين رمز إلى هشاشة الوضع العربي بقطع الكرتون التي ترمم بها الخيمة ـ البيت عقب كل تمزق يصيبها من الأنواء الدولية..
    وبينما رصد حيدر حيدر في «وليمة لأعشاب البحر» وجها آخر من التداعي داخل البيت السوري والعربي، أسقط المسرحي سعد الله ونوس المشكلات المعاصرة على جدار التاريخ الهش، فبدأ بـ»الفيل يا ملك الزمان» وانتهى بـ»منمنمات تاريخية»، مشيراً إلى مبتدأ التخوين. أما الشاعر والمسرحي ممدوح عدوان فأبرز الارتداد إلى التوحش في «حيونة الانسان»، كامتداد غير مباشر لنمور «زكريا تامر» في يومها العاشر من التدجين.
    بالمقابل، أرخ فواز حداد لخصوصية البصمة السورية منذ الاستقلال في «موازييك دمشق» وما تلاها، قبل أن يقارب محنة «جنود الله» في العراق، مستشرفاً امتداد الجحيم إلى داخل الأراضي السورية، ليعنون انفراط العقد الفسيفسائي بالأخوة الأعداء. فيما غاص خالد خليفة بعمق في مستنقع الذات المتقولبة حول نفسها في «دفاتر القرباط»، قبل أن يقذف تضاؤلها بفعل الانكماش الإنساني بين حدي المتعة والتجهيل بصحية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة». وبذلك أخرج فكرة الذات الجمعية من تماسكها الظاهري، ومهد لبروز الانسلاخ عن الهوية المتجذرة بفعل الطائفة في «اسمي زيزفون» لسوسن جميل حسن.     ومع أن حسن تضع روايتها بين دفتي سؤال كبير يتمثل بـ»ما هي الرجعية»، والتي حرثت مناهضتها أثلاما عميقة لدى المذلين والمهانين المتناسلين من عهود الإقطاع البائدة، لكنها لا تخرج عن سياق الاستعراض العابر لبعض الأحداث السياسية في زمنها. فتتوالى الانطباعات الشخصية السريعة على لسان «زيزفون» مختلطة بالكثير من شذرات الأحلام الثورية المجهضة، لجيل الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
وتأتي ازدواجية الاسم جهيدة المتلائم مع زمن موغل في القدم ـ زيزفون الموافق للحرية والزهاء الداخلي بمعزل عن حراس الفضيلة، تعبيراً عن توق الخروج من بوتقة الأحكام الجاهزة التي تصلب بموجبها البطلة وقريناتها على خشبة الطاعة لأولي الأمر، لتصبح رمزا نسويا شعبيا للتمرد على تاريخ المهمشين، الذين انسلوا من جبال العرفان واستوطنوا المدن فتماهوا بأنماطها وتطبعوا بطبائعها. وبسبب وقوع حسن في مطب الاستعجال يتسارع إيقاع كلماتها حينا، ويتريث مليا حينا آخر، ولاسيما عند اللمحات العابرة التي شعرت من خلالها زيزفون بإنسانيتها. وبالتالي تتسربل مشكلة الهوية المزدوجة بالنسوية الضائعة، وبالتوق إلى الاقتصاص من أولئك الذين جعلوا انتظار غودو لانهائيا، بينما تذكي ظلال الشخصيات الهامشية، أمثال سعيد المعتزل في أعلى الجبل والباحث عن عدالة كونية، والمعتوه الذي يطارد الأفاعي في البراري، طابع العبثية ومقارعة العدم على الحكايات، التي ظلت مبتورة لصالح السرد الذاتي.
    تبتدأ الرواية بغيبوبة تُدخل الموت إلى وعي زيزفون التي تخطت الستين من عمرها الذي تراكم في ظلال الوعود، حتى وجدت نفسها في مواجهة السؤال الوجودي المتعلق بالغاية من الحياة، بمعزل عن الطابع الميتافيزيقي لها. وفعل الحياة المستعادة من براثن الموت يدفعها للعودة إلى الماضي لتسجيل حكايات بسيطة، تشكل بديلا يعوض غياب الزوج والأبناء. وعلى غرار ماركيز الذي عاش ليروي، عاشت زيزفون لتشهد على زمنها، الذي تميز بـ»حياة تحترف النداء» ظلت تجرف الجميع، آباء وأبناء، حتى وضعتها أمام احتمالية اكتشاف السبب الذي يجعل الحياة تصبح بلا وعد عند محطة عمرية معينة.  تنتقي حسن بطلتها من الوسط الشعبي، المحكوم بالأعراف والتقاليد المقترنة بالخرافات، والذي يكتسب فيه الذكر القيمة العظمى، فلا تجد أمثال زيزفون من وسيلة لتحقيق الذات سوى التمرد على الأعراف البالية، وإحراق القماش الأخضر الذي يغطى به المقام داخل المزار، فتتماهى مع الأنا وتشعر بمنتهى الحرية. وهذا التمرد يكتسب بعدا إنسانيا أوضح، حين تؤوي ابن المدرس القادم من العاصمة، إبان الاختلاجات العنيفة التي خرقت المجتمع السوري حتى النخاع.
    وبذلك يصبح فهم الحياة عند المرأة التي أُجهضت إنسانيتها، معادلا لمبدأ اللعب مع «الأنا» المتشكلة خلال سنوات عمرها، حتى لو تبدى هذا الفهم عديم الجدوى بالنسبة لها وهي في طريقها إلى الموت. وبذلك تقيس زيزفون جدارتها وتبرهن لنفسها أنها ليست إحدى النسخ المغشوشة للأنا، والواقعة تحت سطوة التجهيل والتحجيم. وهو ما يجردها من الإحساس بالندم، فلا يغرقها مطب جلد الذات، بل يدعم إيمانها بغياب الحد الفاصل والصارم بين الخطأ والصواب.
    تتيح خاصية الزمن، الذي يتكفل بتحويل الأخطاء إلى حجارة كما يقال، أمام زيزفون القابلية لتشكيل هذه الحجارة في منحوتات جميلة، تخدم البشر المحكومين بارتكاب الأخطاء طالما بقوا أحياء. وبالتالي تصبح استعادة الذكريات باعثاً على التسلية، المقترنة بالاستهزاء الخفي والممزوج بالألم. بالمقابل، تدفع عفوية المشاعر والأفكار المتواترة في النص القارئ نحو تأمل حكاية الأنا، واستشعار توقها لمفارقة الملهاة الإنسانية، وتصعيد إحساسها بالاغتراب المكاني، ليبلغ عتبة التحدي للنمط العشائري القائم على الاستنساخ وتغيب العقل ولفظ الاختلاف.