بيانٌ أدبيٌّ وقصائدُ بابليَّة في النجف الأشرف
النجف: صلاح حسن السيلاوي
احتفى اتحاد أدباء النجف الأشرف بنخبة من مثقفي وشعراء محافظة بابل عبر أمسية أقيمت لهم على قاعة الحبوبي في الاتحاد أدارها الدكتور كاظم عبد الله حضرها جمهور الأدب والثقافة في المدينة. ابتدأت الأمسية بكلمة ترحيبيَّة لرئيس اتحاد أدباء بابل الشاعر أنمار مردان تحدث فيها عن الثقافة البابليَّة والجسور المشتركة التي تربطها بثقافة ومبدعي النجف مقدماً شكره لكرم الضيافة. ألقى بعد ذلك الناقد الدكتور رشيد هارون كلمة تحدث فيها عن المشهد الادبي في بابل، ثم أعلن عن بيان أدبي كتبه عن مضامين الزعامات الفردية والشكليّة في الشعر، فكان بعنوان (لا زعامة فردية للشعر، لا زعامة لشكل كتابيٍّ بعينه.) وكان نصه ما يأتي:
حين نتحدّث عن الشعر الحلّي الآن وكائناته الشعريّة، فكأنّنا نتحدث عن الشعر العراقي، ذلك لأنّ الشعراءَ جميعَهم يتعرّضون لظرف سياسي واقتصادي واحد، فأما ينعمون بمكتسباته العقلانيّة، واما يرزحون تحت وطأة أخطائه الكارثيّة، فهم عادةً يتعرضون لضروب الاستفزاز والازعاج نفسها، فيتوشّى الشعر بعد أن توشّت الذات بملامح المرحلة التي عاشت، تتوشى اضطرابا اذا اضطراب، واستقرارا نفسيّا اذا استقرار، وهذا لا يمنعنا من القول أن طرائق ردود الأفعال تختلف عند كل شاعر من الشعراء، وعليه تتنوع أساليب القول والتصوير فيتخذ كل شاعر مستوى خاصا به، وموقعا بين أقرانه يميزه عنهم، أو يميزهم عنه، تبعاً لدرجة تفعيل الذات، وقدرة الشاعر على تضييق الذات للقبض على المشكلة ليتسع التلقي على نحو تلقائي، وأنني لأؤمن بأنَّ الشعر الذي يصل الى المتلقي هو الشعر الذي لا يكتب للمتلقي، وبذلك يغدو التمايز بين الشعراء واضحاً من قوة الانصراف الداخلي الى المشكلة التي يُعالجها كل شاعر، وقوة الانعتاق من الوسائل الخارجيّة، والمسلّم به من الأساليب والأقوال والصور.
ما وُجدت الكتابة الا لتردم نقصاً، وما كتب الشعر الا ليقوم بردم نقص نفسي، نأي الحبيب نقص، موت عزيز نقص في المشهد الذي اعتاده الشاعر، الكبت والقمع نقص في مقدار الحرية، ولو لم يشعر السيّاب بالنقص الذي خلّفه موت الأب والأم، ونقص العافية، لما أطلق صرخته (الموت أهون من خطيَّة) الخطيَّة التي كانت تزعجه أيما ازعاج، ولما سطّر كل ما خلّفه من مجد شعري ملأ آفاقا واسعة، سيصمد ذلك الشعر أزمنة مديدة، ولا شكّ بأن لا يمكن لأي شاعر أن يردم كلَّ أنواع النقص، ولو بالامكان تحقيق ذلك لما كان بنا حاجة الى هذه الأعداد الغفيرة من الشعراء في كل عصر وزمان، ولما علّقت العرب على الكعبة مجموعة من القصائد أختلف في عددها، وفي ارتفاع سقوفها على مستوى الفن، ثانية أقول لا يمكن لأيِّ شاعر أن يردم كلَّ أنواع النقص، وإلّا لما عمد شعراء كبار كالبحتري وأبي تمام والأصمعي والجواهري الى جمع أشعار غيرهم من الشعراء، لأنَّ شعر أولئك الشعراء يردم نقصا ما في النفس، لم يستطع شعرهم ردمه، وكأنّ البحتري وأبا تمام والأصمعي والجواهري آمنوا مبكّرين من دون أن يصرّحوا علانيّة، آمنوا بالفعل لا القول، بأنّ زعامة الشعر زعامة جماعيّة.
على وفق هذه الفكرة أنظر الى الشعر الحلي والشعر العراقي والعربي، لا زعامة لشاعر بعينه، لا زعامة لشكل شعري بعينه، لا سلطة لوجهة نظر نقديَّة كائناً من كان قائلها تمكنها من الانحياز الى ضرب من الأشكال الكتابيّة، أو موضوعا من الموضوعات منحّيَّة سواه، أما الفصل والوصل والأمر، فللذات وقدرتها على استدعاء جزيل من الذوات للوقوف عندها وسماعها.
تأسيساً على كل ما تقدّم ستكونون بأزاء عدد من الموضوعات آخذين بالحسبان أنّ انتقاء الموضوع لا يقل أهمية عن انتقاء الوسائل التي تُعالج الموضوعات، ستكونون بأزاء عدد من المشكلات، عدد من التصورات، وبالضرورة ستكونون أمام عدد من الشعراء، أمام عدد الأشكال الكتابيَّة، أمام عدد من الأجيال الشعريَّة التي تعرفكم عليها كما لو كان اللقاء أول لقاء!!).
ابتدأت بعد ذلك القراءات الشعريّة بقصيدة للشاعر عبد الأمير خليل مراد، بعنوان (أَرْشِيَةُ الطائرِ المَبْهُوت) التي دوّنتُ منها الآتي:
(1)
لَيْسَ بِمِنْقَاري بُقْيا مِنْ قُوتْ، أَيَّامِي تَأْكُلُ أَيَّامِي وَحُجُولي كَهَديرِ المَنْفَى، تَتَكَسَّرُ في آخرِ شَأْوٍ، وَأَنا ما بَيْنَهما كَالطَّيْرِ المَبْهُوتْ
(2)
أَرْشِيَتي مِنْ زَرَدٍ تَطْوي، وَسَمَائي تَتَرَقْرَقُ مِنْ شَوْبِ الحَنْظَلْ، هَذِي الدِّفْلَى بَعْضُ حُرُوفي، آهٍ مِنْ شِقْشِقَةِ الزَّمَنِ الأَعْزَلْ، كَيْفَ أُصَفِّي الدُّخَانَ لأَحْفَادِي، وَرِئاتي مَنْسَأةُ نَخِرةْ، يَعْوي صَدَأُ اللحظَةِ في هَيْكَلِها وَصُرَاخِي.... آهِ صُرَاخِي، لَنْ يَبْرحَ ذَيَّاكَ الحُوْتْ
(3)
قَالُوا:-
سَيُرَقِّقُ تِيجانَ الوَحْشَةِ منْ دَمْعِ الآسْ، وَالعَبْدُ الصَّالِحُ في مَرَحٍ، يُلْقي صُرَرَ الوَيْلِ عَلى الجُلّاسْ، فَيَجِيئونَ (يَجِيئونَ) كأتْباعٍ خَجْلى، وَيَرُوحُونَ وَلا صَدَفٌ في كَفٍّ أو ذِكْرى، أو وارِدِ دَلْوٍ يَصْرُخُ يا بُشْرى، هذي عَنْقَائي تَتَهَجّى قاتِلَها، وَتُكَفْكِفُ شَوْكَ الأينِ عَنْ المَلَكُوتْ)
تلاه الشاعر الدكتور أحمد الخيال، بقصيدة (قلق الأسرار) ومنها:
(أتى لتزهر في الأشجار فرصتُهُ، لينطق الماء كي تبتلَ ضحكتُهُ، مصليّاً خلفه إنجيل دمعتنا، ولم تنم في مصلّى الحزن دمعتُهُ، ماذا سيقرأ لوحُ الطين عن غده، وكل سطر رحيق منه نحلتُهُ، وكل فكرة رمل أعشبت مدناً، كأن فاكهة الأفكار كوفته، فيها من الحِلم والحُلم الجميل رؤى، فيها على قلق المحراب سمرتُهُ).
ثم قرأ الشاعر ستار زكم قصيدته (طير بابل الغريب) التي أهداها الى الشاعر خالد البابلي قال فيها: الوحيد الذي كشف قلبك الأبيض .... أنا، أراك من دون عتمة، وأراك من دون شمس.
إنه (آخر الصعاليك)، منذ غبش يطش بذور الكهنة من جيبه المثقوب... يخدع البلابل بعصاة التبختر، يعلمها النشيد... ويسرق منها نشوة البساتين.
أيّها المكدّس بالتين والعنب، أمسك صورة التوحّش، بعيداً عن الغزال.... دع بابه غاربا، كي لا يهرب الجمال من أمامك. أقول.... أنا أحلم إنك غيمة، أنا أحلم أنك قبعة، أنا أحلم أنك مظلة العجوز الأنيقة. تعشق هطول القصيدة عندما ترتبك يداك، تعشق امرأة غجرية ترقص لك قبل الليل وتذهب، أيّها المولع بالمسافات والماء.
بين نصف بابك وباب (حسين ثويني) مسافة يافعة.... أبعد من شهوة الغيم، كيف تمرُّ بها أيّها المنحني مثل طير جريح، يوما ما سيقتلك الظمأ عند ذلك الباب وتلك الخمرة المغشوشة، التي تشتريها بنصف جيب.
سيبكيك (ثويني) ويطفئ كاميراته الليليّة، ويتهمُّ بك قاتلاً مجهولاً. يا أمير الجوع... يا ألم بابل، من علمك الهذيان وأنت أمير الغابة، ولماذا تكتب القصيدة ببطن خاوية.
أيّها البوهيمي... أعرف أنك تسخر من خجلنا الأنيق ومن خطواتنا المحسوبة نحن الشعراء العقلاء. ومن رابية ها أنت تمسك بمسبحة الشعر وتبتسم، أيّها البوهيمي... من أنجبك قديما يا وريث الحجر... تعال تقدم... لا تخف أنّك في وادٍ لا يصله إلا الطير، هو رسائلك الوحيدة الى معابد بابل. تقدم أنت وأسرابك وصلِ
أيّها البوهيمي... أعرف أنك لم تسرق حنطة يوسف، لكنك سرقت تجاعيد الحياة، وتوضأت بها وجعلت من الآلام قصيدة.
أيّها البوهيمي.... أعرف أنك لا تجيد عد الأصابع، لكنك تعرف عد الطيور فوق كوخك الغريب. أيّها المدلل بيننا.... أيّها المتهاوي بين جدران الليل، عجّل بفجرك.... وأمسك بخيط اليقظة، رتّق جرح قلبك الدامع، وانهض من رقادك وارتفع، إنك لا تجيد العيش في الأماكن المنخفضة.
إنْ كان كأسا فهو لك، وإنْ كانت الحرب... فهي عليك، وإن صار مطرا... فبذارا لطيورك، الآن.... سنختار الأشجار العالية والأبراج البعيدة. هناك.... ستصلي عاريا من دون حرج وخوف، ستصلي من أجل (يوسف) البعيد، ستصلي من أجل جنازة أودعتها قرب ضلع المقبرة، ستصلي.... وتموت ستموت القصيدة.) ثم قرأ الشعراء صدام غازي وباقر الشيخ باقر، ومالك مسلماوي قصائد متنوعة
المضامين.