الإلهة إنانا/ عشتار.. المعلِّم الأول في التاريخ الحضاري
ناجح المعموري
عشتار.. إلهة لها وزن في الميثولوجيا البابليّة. وهي لدى عرب الجنوب إله ذكر، يقال له «عشتر» وهي بنت الإله «سين» وأخت «شمش» وهي نجمة الصباح تارة، ونجمة المساء تارة أخرى. ويرمز لها بنجمة ذات ثمانية أشعة الشكل، منقوشة داخل دائرة. ويقال لها بالإغريقية Astorte، وهي عندهم إلهة الحب والخصب. ويظن أن Austro إله الربيع عند الشعوب التيوتونية [الجرمانية] له علاقة بعشتروت. ولا تزال أسماء الآلهة Stella و Stara , Astor و Austro باقية وهي من لفظة Easter، أي عيد الفصح، عيد الربيع، وترجع كلمة Star “نجمة” بالإنكليزية إلى الإنكليزية القديمة Steorra وتقابلها بالهولندية Ster.
وأصلها باليونانية القديمة aster و astron وهذه الكلمة باللاتينية Stella (astrurn) والهندية القديمة Star. ولكن ما هو أصل كلمة عشتار؟ في الموسوعة البريطانية يذكر أن أقدم نص مكتوب لاسم عشتار هو “أشدار” الإلهة الأكدية المقابلة للإلهة السومرية “إنانا” سيدة السماء. وتشير كل الدلائل إلى أن الاسم جزري الأصل. ويذكر بأن الإله Asharu هو إله الحصاد أيام الملك السومري كوديا 2400 ق.م.
وتظهر عشتار في التماثيل امرأة حسنة الوجه ممتلئة الفخذين، بإفراط. وقد أمسكت بثدييها على نحو ما كانت الإلاهات الأم تصور في التماثيل لدى الشعوب القديمة إبان مرحلة سيطرة الأم.
ولا يعرف بالضبط ماذا تمثل الإلهة عشتار. ويمكن حصر شخصيتها الإلهية في مزاج شرس، حافظت عليه حتى النهاية، وكذلك في حبها وميلها الشهواني. وقد امتزجت عبادتها بالإلهة السومرية إنانا أو إنينا. وهذه تسميات من الأصل السومري القديم = Nin + Anna = سيدة السماء، وهي زوجة الإله آنو في مدينة الوركاء عناصرها الحب، والشبق، وفوران الرغبة الجنسية. وتمثل عشتار المرأة بكل معانيها. ولذا جمعت في لقبها وشخصيتها العديد من الآلهة. ولهذا كرمت بعد آنو في مدينة الوركاء أو بدرجة أقل من غيرها. وهي مقربة من الرجال كمنقذة ومحبوبة. وكانت رهيبة مع أعدائها باعتبارها إلهة حرب ولخاصيتها هذه نعتت بالبطلة، سيدة الفرد. وكرمت في آشور، بلد المحاربين الأشداء.
واستطاعت “عشتار” بقوة شخصيتها وهيمنتها في الحياة البابلية من الطغيان وتذويب الكثير من الإلهات القديمة التي لم يبق من أسمائها وأشكالها إلا تسميات ومظاهر لشخصية عشتار. وظلت كل صفة في الأنوثة الإلهية تنسب إليها ومن هنا استمدت عشتار صفتها الفريدة، ومكانتها المرموقة عند الإله آنو، ولقبت أيضاً بـ “سيدة الشعوب” وحاكمة السماء والأرض والأولى بين الآلهة.
نلاحظ تعقيداً في وظيفة عشتار: هي ابنة آنو وابنة سين: ابنة آنو، عندما تكون ربة الحب، وابنة سين، عندما تكون ربة الحرب. وكانت مثل آشور تخرج في الحملات، وتشترك في المعارك، مرتدية الملابس القتالية ومكسوة بالهول. وتظهر واقفة على مركبة تجرها سبعة أسود، وحاملة قوساً وعبدت في أربيلا أيضاً.
إنها أخت أرشكيكال، ملكة العالم السفلي. وهي “نجمة النواح”، التي تجعل الأشقاء الأصغياء يتخاصمون، والأصدقاء ينسون صداقتهم.إنها أشهر إلهة في البانثيون البابلي/ والآشوري. وعبادتها أوسع انتشاراً من كل ألوهية أخرى. واستطاعت زحزحة آنتو”، ذات الشخصية الباهتة وزوجة الإله آنو الشرعية، عن مكانها وحلّت محلها زوجة للإله العليّ. واستغرقت جميع الصفات التي تنسب إلى معظم الألوهيات المؤنثة الأخرى وصارت تعرف باسم الإلهة بامتياز.
يرد اسم عشتار كثيراً في الميثولوجيا البابلية وخصوصاً في أسطورة الطوفان وملحمة جلجامش. وتكشف هذه الإلهة عن مظهرين متميزين: فهي من ناحية إلهة الحب والشبق، وترتبط بمعابدها الصبايا المقدسات أو مومسات المعبد، وهي من ناحية أخرى إلهة الحرب. وينقشونها على الأختام متمنطقة قوساً وكنانة. وظهرت أحياناً بلحية مثل الإله آشور.
عددها المقدس، أي نصف العدد المقدس الذي لأبيها الإله سين، وكان رمزها نجماً ذا ثماني شعب، أو ست عشرة شعبة. ومثلت راكبة الأسد، مطيتها المقدسة، أو تكون في صحبته، لكنها اقترنت مع شكل التنين، وهذا ما يظهر على بوابة عشتار في بابل.
عشتار المحاربة فوق أسدها لها معابد كثيرة في مدن آشور/ بابل/ بلاخ/ أور/ نينوى/ أربيل/ ومركز عبادتها في الوركاء.
وهناك إله وثيق الصلة معها ويحيط به الغموض في مجمع الآلهة، وهو دوموزي/ تموز الأكدي ومعناه “الابن الحقيقي” : إنه صياد للسمك، حكم ضمن الأسرة الأولى التي حكمت بعد الطوفان. وتوجد ليتورجيات كثيرة تضمنت أسطورة نزول تموز إلى العالم الأسفل، ونواح عشتار على زوجها وأخيراً. ولعل أسطورة هبوط عشتار إلى العالم الأسفل، هي أول أسطورة منظمة أنتجها الخيال الإنساني في العراق القديم. لكن شكلها الأخير هو نتاج لتطور طويل، يعكس لنا، بحق، تاريخ الأسطورة وتبدلاتها عبر مراحل تطور المجتمعات الإنسانية. وحافظت الأسطورة على هيكلها الأمومي العام بالرغم من تداخل العناصر الذكوريّة اللاحقة وسيادة الخطاب الرجولي.
ظهرت عشتار البابلية كسيدة للشفاء في التراتيل والصلوات التي خلفتها لنا ثقافة وادي الرافدين. كما نستطيع متابعة هذه الوظيفة في معظم تجليّات الأم الكبرى في شتى الثقافات. ومثلما كانت الحيّة رمزاً لعشتار الخضراء، روح النبات، صارت (أيضاً) رمزاً لعشتار العافية. وما زال ذلك الرمز حاضراً بيننا الآن. ورمز الكاديكيوس السومري، شارة الطب والشفاء، ما زال إلى الآن رمزاً للطب في جميع أنحاء العالم، ونراه مطبوعاً على الوصفات الطبيَّة وعبوات الأدوية من دون أن نسأل عن معنى ذلك الشكل المؤلف من أفعوانين ملتفّين بشكل متقابل على عمود، كما أنّنا لا نتساءل عن معنى رمز طبي آخر نراه مرسوماً على أبواب الصيدليات ولافتاتها، وهي الكأس التي تلتف حولها أفعى واضعة رأسها عند الفوهة. إنَّ الكأس هنا هي الإناء الفخاري، جسد الأم الكبرى. والحية حيتها وقوتها الإحيائيّة وقدراتها الشافية.
تضعنا طقوس الخصاء أمام عشتار سيدة [التناقضات]. فكهانها خصيان متبتلون، نذروا للآلهة طهارة جنسيّة كاملة. أما كاهناتها، فهنَّ بغايا مقدسات، لا ينقطعن عن ممارسة الجنس، وموهوبات لكل الرجال داخل الحرم العشتاري.
ويخص الرجال في معبدها، وحوله تستمر طقوس الجنس المقدس في كل الأوقات. هذا التنوع في عناصرها ووظائفها يمكن فهمه في ضوء الصراع والتعاون القائم بين القوتين العظيمتين في الأم الكبرى: قوة الموت وقوة الحياة.
ففي إطلاق جنسانية الأنثى توكيد على مبدأ الحياة وفي جنسانية الرجل توكيد على مبدأ الموت. ومن ناحية أخرى، فإن الخصاء الذي يقوم به الكهان، وبعض العباد، هو نوع من التوحد الصوفي مع الروح الأنثوية/ الكونية وتوكيد على أولوية الأنوثة وتبعيَّة الذكورة ضمن المؤسسة العشتاريَّة التي تشكل جزيرة أموميَّة في بحر الثقافة الذكوريَّة.
قال فراس السوّاح: بدأت كل الديانات عشتارية. وكل سر من أسرار الطبيعة، وحكمة من حكمها وخبيئة من خبايا النفس الإنسانية، وعلاقة من علائق القوى الخفية، قد أبانتها عشتار في كل جزء أو إشارة لبني البشر عن طريق كاهناتها اللاتي كن منذ البداية صلة الوصل بين عالم البشر وعالم الآلهة، وبذلك لعبت المرأة دور المعلم الأول في التاريخ الحضاري. المرأة أكثر حساً بالخفي والماورائي من الرجل، وأكثر منه تديناً وإيماناً بالقوى الإلهيَّة. وكانت سيطرة المرأة على الحياة الدينيَّة سيطرة على عالم يموج بالأسرار والخفايا.ومن النصوص الغزليَّة التي قيلت على لسان الآلهة إنانا/عشتار نص “إلى حديقته أدخلني، أدخلني دوموزي”: (أدخلني إليها! أدخلني إليها! / أدخلني أخي، إلى حديقته/ دوموزي أدخلني إلى حديقته/ أخذني معه حتى المظلة/ وجعلني أركن معه على زهراء مرتفعة/ على الفور اتخذت وضعي تحت شجرة تفاح، بينما وصل أخي وهو يغني/ وبينما كان دوموزي يتجه نحوي/ يتجه نحوي اعتباراً من المظلة السمراء لشجر السنديان/ يتجه نحوي تحت حرّ الظهيرة/ سكبت من حضني أمامه الخضار/ أنتجت له خضاراً وسكبتها أمامه/ أنتجبت له حباً وسكبت حباً أمامه/ الإله دوموزي في قارب يحمل هدايا إلى إنانا/ عشتار).
كان للإلهة عشتار دور إيجابي معروف في ملحمة جلجامش/ أسطورة الطوفان، حيث لعبت دوراً واضحاً من أجل إنقاذ بني البشر واتهام الإله أنليل بمحاولة الإبادة وقدمت القرابين إلى الآلهة بعدما أنقذت بني البشر، وطلبت منهم الاقتراب من القرابين والتقدمات، ومنعت “أنليل” من الاقتراب منها. وتلك الحادثة ليست عادية، لأننا نعرف بأن “إنليل” يمثل السلطة التنفيذية في مجلس الآلهة القديم. ولهذا كثيراً ما أحدث الكوارث والأوبئة والطوفان. وتحفل النصوص الأسطوريّة بإشارات واضحة عن ذلك. ومرثية أور أكثر النصوص التي تومئ لمسؤولية إنليل في خراب مدينة أور، وكذلك رثاء نفر.
وما قامت به الإلهة عشتار يمثل واحدة من عناصرها المضطربة.. المتناقضة، وأعلنت تحدياً للسلطة التنفيذيَّة.
ويثير موقف عشتار تساؤلاً حول الاضطراب الواضح في خصائصها، وبروز التضاد. في أفعالها ومواقفها. وموقفها هذا، مختلف تماماً عن الذي حصل بعد عودة جلجامش وأنكيدو من غابة الأرز، حيث أكد على الإله آنو من أجل إنزال الثور السماوي، وإبادة سكان أوروك.
ويتعمّق الخلاف بين عشتار وإنليل، ويضيء هذا التباين بين الاثنين واحديَّة القرار الذي يتخذ في مجلس الآلهة. ومثلما اتخذ الإله إنليل قرار الإبادة بوساطة الطوفان، قررت الإلهة عشتار إنقاذ المتبقي من بني البشر.
ولما حضرت الإلهة العظيمة “عشتار” رفعت عقد الجواهر الذي صاغه لها آنو وفق هواها، وقالت: أنتم أيتها الآلهة الحاضرون: كما أنني لا أنسى عقد اللازورد هذا الذي في جيدي
(سأظل أتحسس [أذكر] هذه الأيام ولن أنساها أبداً ليتقدم الآلهة إلى القرابين/ أما “إنليل”، فحذار أن يقترب من القرابين/ لأنه لم يتروّ فأحدث عباب الطوفان/ وأسْلم أناسي [خلقي] إلى الهلاك).
والقراءة الدقيقة لملحمة جلجامش، فقط، ستكشف عناصر عشتار التي أشرنا إليها، وأكثر مواقفها عدوانية وانتقاماً وما حصل لأزواها الكثيرين. وهي إلهة تهيمن عليها التشظي والتفكك وغياب الوحدة المنسجمة بين عناصرها الفكرية والدينية ووظائفها الحياتية.